الخروج عن مألوف الروتين والمعتاد مهم... والكتابة في السياسية أضحت روتيناً لا جديد فيه، لذلك رأيت أن أكتب في قضية إجتماعية ورياضية عامة، ترتبط بشخصية أحد أبطالنا العظام ونجومنا الكبار، هو اللاعب الفذ ودرة الملاعب السودانية نصر الدين عباس جكسا، لاعب الهلال والمنتخب السوداني الذي لم تنجب الملاعب مثله.. قدرة وتفوقاً وتميزاً.. وخُلقاً رفيعاً، لكن طارئاً طرأ جعلني أحيل أمر الكتابة عن جكسا إلى الغد- بإذن الله- والطارئ هو كتاب يحمل اسم (رحلتي مع الأيام والكتاب) ومؤلفه مدثر محمد عبد الله، رصد عن دار عزة للنشر والتوزيع، حمله إليّ مع مذكرة قصيرة الأخ الأستاذ صديق خيري. نعم.. كان ذلك الكتاب هو الطارئ الذي أجبرني على التوقف عنده والكتابة عنه، فكاتبه مدثر محمد عبد الله هو مدير الإعلام بوزارة العمل، يعاني من إعاقة طبية مزودجة (حركية وسمعية)، لكنه لم يشعر طوال حياته بأنه معاق.. فقد حقق كل أهدافه التي حددها في هذه الدنيا.. تعلم ودرس وعانى الكثير لكنه اكمل تعليمه ثم أكمل نصف دينه، وتأثر برموز إنسانية عظيمة.. تأثر بالأستاذ محمود عباس العقاد الذي توقف تعليمه عند محطة المرحلة الابتدائية، لكنه تجاوز (كل الكليات) النظرية والتطبيقية بعلمه وعقله وقدرته على الاستيعاب، وتأثر بالدكتور طه حسين عميد الأدب العربي الذي كان أعمى، لكن بصيرته اجتازت سدف الظلام وأضاءات عقله وقلبه حتى أصبح أحد أبرز معالم النهضة الأدبية العربية، وتأثر بمعجزة القرن العشرين، الأمريكية (هيلين كلير) وهي صماء بكماء عمياء، وكانت أول فتاة ذات ثلاث عاهات تلتحق بالجامعة وتتخرج فيها بدرجة الشرف وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، وقامت بتأليف العديد من الكتب التي ترجمت إلى لغات العالم تقريباً.. كما أنها كانت أول سيدة تحصل على درجة الدكتوراة الفخرية في تاريخ جامعة هارفارد.. لذلك تعتبر أحد رموز الإرادة الإنسانية، وكانت تقدم برنامجاً تلفزيونياً اسبوعياً تبدأه دائماً بعبارة: (أنا عمياء لكنني أبصر.. وصماء لكنني أسمع). الكتاب الذي تسلمت نسخته قبل الظهر بقليل لم يفارق يدي إلا بعد أن طفت على جزء كبير منه، وهو تجربة رائدة وشجاعة، وهو عبارة عن قصة تحدٍ للإعاقة أكثر منه كتابة للسيرة الذاتية، قال كاتبه: (قرأت السير الذاتية لمعظم الأدباء والمفكرين، وقرأت سير الأنبياء، ووجدت نفسي أحلق في فضاء واسع كالنسر، وصدى أنشودة الوجود يتردد في كل الكون، كانت هناك طاقة هائلة تولدت داخل نفسي، ونسيت أنني طبياً معاق (حركياً وسمعياً)، وكان عقلي حراً طليقاً يتجول في الكون، وكنت أسمع لحن أنشودة الوجود. هكذا كان الكاتب طوال مراحل حياته، وهكذا كان وهو يحكي تجربته الدراسية وتجربته في الزواج.. باختصار نستطع القول بإن هذا الكتاب هو تسجيل لتجربة سودانية بل إنسانية عظيمة تستحق أن توثق.. وأن تروى وأن تدرس للأجيال حتى ولو بالدخول من باب المكتبة المدرسية، اللهم نسألك أن تحقق للرجل الذي هزم العجز، والإعاقة ما يريد، وأن تقويه في مسيرة الحياة القاسية، وأن تحقق له أحلامه الكبرى من خلال نجاح أبنائه وبناته، وأن ترزقه الرزق الحلال الحسن الذي لا يحوجه لغيرك.. يا الله.. آمين .. وجمعة مبارك..