ديجول أعلن في أعقاب الحرب العالمية الثانية تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة وكان مسوغ ذلك أن الجمهورية الثالثة قد انقطعت حينما وقعت بلاده تحت نير احتلال هتلر والنازيين، ولما انتصر الحلفاء وانهزمت المانيا عادت فرنسا إلى نفسها، وكان لزاماً أن تؤسس جمهوريتها المستقلة فكانت الجمهورية الرابعة التي تخبطت وفشلت وتساقطت حكوماتها فأعيد شارل ديجول مكللاً بالعز ليؤسس جمهورية جديدة هي الخامسة بدستورها الجديد... أما نحن..! فلقد أطلق الأستاذ علي عثمان محمد طه، كمفكر لا كمتخذ قرار قوله بأننا بصدد جمهورية ثانية.. فلماذا؟ هل فقدنا جمهوريتنا وعدنا الآن لنستردها؟ أم ما سبب هذه الانتباهة المفاجئة لتحول سيرورة الدولة؟ إن الطرح لا يمكن التعاطي معه إلا كوجهة نظر مفكر، وليس كقرار نائب رئيس، وذلك لأن رئيس الجمهورية، نفسه في لقاء أحسبه في مسيد الشيخ الكباشي، حينما بايعه أقطاب الطرق الصوفية على الشريعة كأساس للنظام أشار إلى قول طه هذا، فذكر «زي ما قال علي عثمان: الجمهورية التانية يا أخوانا!» وهذا يعني أن الطرح من الأستاذ علي عثمان شخصياً، وليس رسمياً، إنه رأيه الذي أعجب به رئيس الجمهورية، كشيء جديد أو كفكرة يمكن استلهامها لولوج مرحلة جديدة شد ما يحتاج شعبنا خلالها الى دفع معنوي ومُثل عليا تهديه إلى سبل الرشاد، حتى لا يصاب بالنقص والانحسار المعنوي والخسران كأمة.والمعروف عن نائب الرئيس أنه رجل قانون، وشيخ صالح، وقدوة، ومثقف ولكن قلما يطرح نفسه مفكراً على نحو ما يفعله السيد الصادق المهدي أو الترابي أو غازي صلاح الدين. ولكن الطرح يقع في صميم القانون، لأن فكرة «جمهورية» لها ميزاتها وخصائصها عن غيرها من الجمهوريات لا يمكن أن تخرج عن دائرة «الدستور» الذي يميزها، والدستور هو أبو القوانين، والدستور إنما جعل ليرسي أسس ونظام الدولة، هل هي ملكية أم جمهورية، وفي الواقع فإن علم السياسة لا يكتفي بغياب «الملك» حتى يطلق على الدولة حينئذ جمهورية. فقد نقرأ في موقع «ويكيبيديا» القاموسي: يمكن أن تكون الجمهوريات بيد رأس الدولة والذي له العديد من صفات الحاكم المطلق «الملك» بل إن بعض الجمهوريات قد تعين رئيساً لها مدى الحياة، وقد تعمد الى التوريث، كما في سوريا ورغم هذا فهي تسمي نفسها جمهورية، لا مملكة. من هنا فإن التعريف الفضفاض الذي يمكن أن يستوعب كل هذا هو أن: الجمهورية هي دولة يقودها أناس لا يبنون قوتهم السياسية على أي مبدأ خارج خيار الشعب ورضاه. وبوجه عام فإن «الشكل المثالي» للحكم من وجهة نظر الشعب كاف لاعتبار أن تلك الدولة جمهورية على أن يتصف موقف الشعب ازاء نظام حكمه المثالي هذا بالثبات النسبي وبالقابلية الدائمة لتعديله حتى يكون موافقاً نظر الشعب متى ما أراد ذلك. هكذا يستوفي مفهوم «الجمهورية» شرطه النسبي، طالما أن تقعيده القاطع غير متاح إلا في مخيلة الحالمين السياسيين الذين يضربون أمثلة بنماذج لها ظروف موضوعية يصعب تعميمها. ترى هل حفز علي عثمان لإطلاق مشروع الجمهورية السودانية الثانية ما استجد من وضع جيوسياسي بعد انفصال الجنوب؟ أم أن الأمر عائد الى إرساء دستور جديد سينطوي على مباديء جديدة وأسس جديدة لنظام الحكم سوف يختلف نوعاً عما سبق؟ أم يا ترى هذا اعتراف من جانبه، بأن نظام الحكم لم يكن مثالياً في نظر الشعب على النحو الذي سيكونه بعد التاسع من يوليو بدء ميلاد الجمهورية الثانية؟ فإذا كانت «الاتوقراطية» التي اتسمت بها معظم نظم الحكم التي تولت السلطة في البلاد هي السبب في الزعم بأن التخلص منها بدستور «مثالي» الآن سيبرر تصنيف الدولة السودانية بالجمهورية الثانية، فإننا سنبادر الى القول بأن «الجنرال» ديجول لم يعتبر نظامه الذي أرساه في نهايات 1958 بالجمهورية الفرنسية الخامسة إلا لأنه قد اشترط على البرلمان بأن يتخلى له عن صلاحياته، ليصبح الجنرال حاكماً مطلقاً «دكتاتوراً» مستنيراً وبرغبة الشعب والبرلمان! نعم البرلمان تنازل عن سلطاته لرئيس الجمهورية وفوضه بأن يفعل كل ما يراه في صالح فرنسا.. وهذه هي الجمهورية الجديدة. هل هذا ما يقصده علي عثمان؟ ومن هو ديجول الجمهورية الجديدة، هل هو نفسه أم البشير أم د. نافع الذي قال: أنا لا! الساحة السياسية ينبغي أن تتقصى هذا وصفحاتنا مفتوحة.