يقولون «الجديد شديد» لكونه يثير الإعجاب والدهشة وبالإمكان أن يفعل القديم ذلك أيضا، أو هذا ما انتابني وأنا استمع لأول مرة إلى إذاعة جديدة اسمها «ذاكرة الأمة». فوجئت بأصوات باذخة تعيد للأذهان مجد الراديو وأيام سطوته كوسيط إعلامى انفرد بالمزاج العام وأثراه قبل أن تحل ثورة الفضاء وتخطف شاشة التلفزيون الأنظار.. أتحفتنا هذه الإذاعة بأصوات جاذبة بقيت فى الذاكرة ، منها صوت الفكى عبد الرحمن بثقافته الراقية يتقمص شخصية«عمكم مختار» و «حبوبة كلتوم» الدكتورة الرضية آدم خبيرة الإعلام الآن، وإبداعات الطفلين مهدي ونجيب نور الدين وهما اليوم فى مصاف رؤساء التحرير، وتجليات الطيب صالح فى سيرة ابن هشام وإشراقات الإعلامي المربي عبد العزيز عبد اللطيف.. رحم الله من رحلوا وتركوا هذا الأثر الثقافى التربوى الذى هو بمثابة «علم ينتفع به» بإذن الله. بهرني زخم الماضي مع أني كنت مشغولاً بجديد الراديو من وحي دراسة حديثة تبشر ببقائه على قيد الحياة برغم اشتداد وطيس العولمة والرقمنة. والحجة هى أن العولمة- ويا للعجب - ستركز على ماهو محلي ، وأن التكنولوجيا ستمكن الراديو ليصمد بسلاح التفاعل مع المستمع أين ما كان، بل بإمكانه أن يتحول إلى راديو مُشاهد كما تقول الدراسة وكما تبشر مشروعات التخرج ببعض الكليات التقنية ببلادنا وهذا موضوع مقال آخر باذن الله . حين استمعت لهذه الإذاعة كنت عائداً من محاضرة أدرت خلالها حواراً مع طلاب الإعلام التقني حول مصير الراديو والصحافة والسينما فى عصر الانترنت ومع تعاظم شأن التلفزيون.. حسمنا الجدل بعبارة أشبه بالحكمة لأحد خبراء الاتصال، مفادها أن الوسائط متكاملة وليس من مقاصد أي منها إقصاء الآخر ولكل مجاله للتميز والتطور والإضافة. ويبدو أن الراديو فعلها ، وله الحق فهو قد سبق جميع الوسائط ما عدا الصحف، بل ألهمها الأفكار التى طورتها ليضطلع الآن بدور جديد مع ظهور مجتمع المعلومات. الدكتور خالد زعموم - كلية الاتصال بجامعة الشارقة - يقول فى دراسة نشرتها مجلة اتحاد الإذاعات العربية: إن تدفق المعلومات أغرى وسائل الإعلام للانجراف فى برامج الترفيه والتسلية على حساب المضمون الجاد الذى يساعد الجمهور فى تكوين رأي موضوعي حول القضايا التى تهمَّه حتى أن بعض الدول النامية أظهرت مخاوفها من ذلك ومن التهميش المعلوماتى بسبب نصيبها المتدنى من التقنية والكوادر المؤهلة تقنياً. أثيرت هذه القضية فى المؤتمر الدولي حول مجتمع المعلومات «جنيف 2003» لمواجهة تحديات العولمة خصوصاً الثقافية والمتصلة بالهوية.. واحدة من الحلول كانت الإذاعات المتخصصة وتلك التى تسمى «إذاعات القرب» التى أنجبتها التقنية الحديثة فاتجهت الأنظار نحوها فى كل العالم واعتبرت من أهم وسائل الدفاع عن الخصوصيات الثقافية والحضارية والإبداعية لأنها تحصن المحليات من طوفان ثقافة العولمة وشرورها . «إذاعات القرب» عرفت بتعدد ملكيتها وقدرتها على الإنطلاق من المحليات والتفاعل والانتشار عبر النت ، وهي لذلك يمكن أن تكون فعلاً أداة حقيقية فى عملية الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والحضارية لأنها تعبر عن الواقع الاجتماعي والثقافي خاصة فى المناطق النائية. إنها هدية ثورة المعلومات للإبقاء على المجتمعات المحلية مُصونة من خلال التفاعل وتواصل الحوار وتبادل الأفكار عبر فضاء عالمي مفتوح بفضل تطور التكنولوجيا التى أنجبت الراديو الرقمى الفضائى- Satellite Digital Radio ، وصفته الأساسية أنه راديو للمشاركة الواسعة two way communication.. مستقبل الإذاعة اعتمد على هذا التغيير الذى أدى لتطور وسائل الاتصال اعتماداً على كفاءات إعلامية عالية وهذا شرطها ، وإلا أصبحنا نملك تكنولوجيا فارغة المحتوى أو هدامة.. فبدون تكنولوجيا حديثة وكادر إعلامى مدرب كيف يتسنى امتلاك راديو يحمي الهوية ويشرك الجمهور ويكون لسان حال المجتمعات المحلية ويسعى للتطور كل يوم، فهو الآن قد توجه لتكون له شاشة تبدا بعناوين الأخبار وإعطاء صورة لمذيع طالما أحببناه دون أن نراه ؟.نقلتنى هذه الأصوات النادرة إلى أيام إذاعية طاغية الصدى من أيام المدير محمود أبوالعزايم.. فقد أشارالفكى عبد الرحمن عليهما الرحمة إلى أنه «مر من هنا» أثناء التسجيل وكشف سراً هو أن مخرج البرنامج معتصم فضل «المدير الحالى» كان أحد الأطفال المتعاونين مع الإذاعة. الحلقة سُجلت عام 1980 بمناسبة مرور «40» عاماً على ميلاد الإذاعة فتعرضت لقصة الراديو واكتشافه وأهميته وإمكانية تطوره وهو موضوع الساعة اليوم. « ذاكرة الأمة» أفلحت فى إثارة الذكريات عن« ناس زمان» وما وهبهم الله من تميز تعكسه تلك البرامج وتسمح بالمقارنة وإثراء عطاء الحاضر وتنتصر لفكرة تواصل الأجيال. إنها أنموذج للإذاعة المتخصصة واسعة الانتشار فهى تُبث على موجة مسموعة وعلى النت كذلك ، وإشراقات زمان كثيرة ، وإنى أتوقع البرنامج الشهير«يوم لا ينسى» مع رموز ما بعد الاستقلال، وإشراقة الصباح عطر الكلام، فى غرفة الجلوس للأستاذ حسن محمد على صاحب معرض الأقاليم ، وحديث الجمعة للأستاذ شيلاب، ومائدة النهار للأستاذ صالح بانقا صالح بن البان، وحديث الأربعاء للأستاذ أبوعاقلة يوسف، وأشكال وألوان للأستاذ أحمد الزبير.. ولعلي أفاجأ بنداء «هنا أم درمان» بصوت محمد صالح فهمى - عليهم جميعاً رحمة الله، وهذا الدعاء من الآلاف حسنة تنفرد به هذه الإذاعة تجاه أناس بذلوا للبلاد والعباد عصارة فكرهم وما وهبهم الله تعالى من مواهب.. لمن فكر فيها ووقف على اختياراتها التحية.