يا صديقي الظافر.. هؤلاء النبلاء هم الذين تختلط في صدورهم الحبيبة والزوجة بالوطن.. لا ينظرون إلى الوطن إلا من خلال الحبيبة الشفاف والشفيف.. لا يحضر الوطن إلا وهو مطبوع في عيون الحبيبة.. إنهم يحبون ويبكون المرأة الفكرة.. المرأة الموقف.. المرأة الزميلة ورفيقة الرحلة.. رحلة الصعود إلى قلب الشمس.. بل جرجرة الشمس حتى تشرق وتنير دروب الوطن.. فهل هذه خصوصية وشأن خاص.. كيف يكون خاصاً.. ومثل فتحي لا يرى في عيون الزوجة الحبيبة غير خريطة الوطن مطبوعة في إبهار ووضوح في تلك العيون.. إنها نفس عيون حبيبة.. بل توأم روح محجوب الشريف.. الذي غنى.. وأنشد وأشعر.. وهو «محشور» في حراسة مشددة.. في عهد طاغية وأيام طغيان وعهد وأيام بهتان.. منفياً إلى سجن بعيد.. عقاباً له على الانحياز للشعب.. «وقبض متلبساً» بحب الوطن.. ودون في مواجهته بلاغ.. تحت تهمة «تقديس تراب السودان الغالي».. كتب محجوب في عيون حبيبته ورفيقة دربه في تلك اللحظات.. لحظات الترحيل إلى «شالا.. محطة.. محطة بتذكر عيونك ونحن في المنفى وبتذكر مناديلك خيوطها الحمراء ما صدفة وبتذكر سؤالك لمتين جرح البلد يشفى متين تضحك سما الخرطوم حبيبتنا.. متين تصفى سؤالك كان بعذبنا.. ويقربنا ويزيد ما بينا من إلفة.. «شفت كيف» يا الظافر.. هذا هو محجوب.. وهذه هي رسالته شعراً إلى الحبيبة الزوجة.. هل هو «مكتوب» خاص.. أم عام.. خطاب يقرأه كل الشعب السوداني.. المدهش.. النبيل.. البديع.. يا صديقي.. أمثال فتحي.. والراحلة العزيزة المقاتلة المناضلة زوجه.. هؤلاء يا صديقي.. وقبل أن تضمهم حجرات المنافي والمهاجر «الرطبة».. وقبل أن يودعوا هذا الوطن مكرهين.. يحزمون حقائبهم.. ملابس.. ثياباً.. سفنجات.. برطمان به «قبضة» من تراب الوطن.. وشريط غناء أو نقش غناء في ضلوعهم.. يقرأ.. حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي.. وطن شامخ وطن عاتي.. وطن خيّر ديمقراطي.. نعم يا صديقي إنهم يستفون «الشنط» ولكنهم أيضاً «يستفون» قلوبهم.. بل تجاويف صدورهم.. بحب شاسع للوطن.. مصطحبين في تلك التجاويف.. شعبهم.. وآمالهم.. وأحلامهم.. وإصرارهم على الموت حباً.. والغناء اشتعالاً.. والتضحية رضا لهذا الوطن.. ولشعبه.. صديقي الظافر.. صدقني.. ودعني أقسم بالشعب والأيام الصعبة.. أني وبعد أن قرأت رثاء فتحي.. لوداد.. عشر مرات.. كنت أذرف الدموع.. لتساهم عيوني في العزاء.. وكذا يجب أن تبكي أي عين.. ترى الوطن.. حبيباً.. ومعشوقاً.. وأرضاً للسلام والحب والخير والجمال.. وأن يحس وتماماً كما «فتحي».. أن الفقد فقده.. والمصيبة مصيبته.. والبكاء.. بكاؤه.. لقد أحسست بعد.. مرثية فتحي.. أن صفنا قد نقص واحداً.. نقص فدائياً.. وكيف لا يكون مثل الراحلة فدائياً وهو يضحي.. بكل الحياة.. أو معظم سنوات الحياة.. مهاجراً.. لا لجمع المال.. بل لتقديم شيء للوطن.. تعذر القيام به داخل أسوار الوطن.. نعم لقد نقص صفنا واحداً.. صفنا صف الجوع الكافر.. وليس الصف الآخر الساجد من ثقل الأوزار.. الظافر.. راجع كل الكلمات المنثورة في بهاء وإبداع.. أو تلك المقفاة في تنغيم وإشراق.. التي يكتبها هؤلاء النبلاء المحبون لأوطانهم.. نثراً أو شعراً لزوجاتهم.. لحبيباتهم.. تجدها.. شأناً عاماً.. بالغ العمومية.. حتى وإن كانت خطابات مسجلة بعلم الوصول.. أو داخل مظاريف عليها «طابعة».. إنها لنا جميعاً.. لأنهم.. تشردوا.. أو سجنوا أو اعتقلوا.. أو عذبوا.. أو على الأقل رفضوا حياة الدعة.. واستعمار الوظيفة.. والبقاء داخل أسوار الوطن.. فعلوا كل ذلك من أجلنا.. ولنا.. وبنا.. وبعد «ده كلو» يكون شأناً شخصياً.. «غايتو» أنا لن أتنازل عن حقي في ملكهم العام.. والذي هو لنا كلنا.. لك خالص العزاء يا فتحي.. ونحن أيضاً لنا خالص العزاء.. وأُلهمنا معك الصبر والسلوان.