تبني اليسار العريض لقضايا الهامش ما زال يضع الأخير في حالة عداء خفي مع المركز ويوعّر الطريق الواصل بينهما في ظل هيمنة الإسلاميين على زمام الأمور فيه منذ عقود كما هو ملحوظ. فثمة بغضاء صماء وتاريخية، لا تخفى على أحد، بين الشيوعيين وشيعتهم من جهة، والإسلاميين وأضرابهم من جهة ثانية، ما يفقدنا الأمل في اية تسوية أو تفاهمات راسخة ودائمة تجعل أمر التعايش بينهما ممكناً لينعم الوطن بالاستقرار والسلام ثم التنمية. العلاقة بين هذين النقيضين علاقة لاءات فحسب، ومصدر ذلك منطقي جداً لأنه ناجم عن عقيدة نهضت لمحو ضدها لكي تسود هي وحدها بوصفها الخلاص المثالي. وبعد أن كان الصراع بينهما متمحوراً حول المؤسسات المدنية العصرية: من جامعات ومدارس ومعاهد وهيئات كبرى مثل السكة الحديد، ومشروع الجزيرة، والمصانع وحتى القوات المسلحة وأجهزة الإعلام، فإنه فجأة وبقدرة قادر تحول الى الهامش، فكل تجليات الصراع الآيدولوجي وعنفه وحدّته لا تبدو اليوم ناشبة إلا هناك في الهامش: الجنوب، دارفور، ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، فيها فقط يصطدم اليساريون واتباعهم مع الإسلاميين واتباعهم، وأما مراكز صراعاتهم التقليدية المذكورة أعلاه فإن الأمن بات فيها الآن مستتباً والغلبة للإسلاميين، ولا بصيص أمل في ثورة شعبية أو إضراب مدني. وربما الإفادة أعلاه (الغلبة للإسلاميين) هي التي تفسر سبب لجوء اليساريين الى الهامش وتبني قضاياه وشحذها تمهيداً لجعله أي الهامش -معتركاً بديلاً رغم خطورة الخطوة ومجازفتها السياسية باعتبارها مظنة حروب وتدويل وتعميق معاناة لأهل الهامش أكثر مما هم عليه. إن قضية الهامش قضية سهلة وواضحة، وكل من شاء أن يحرج أية حكومة فإنه يكفي فقط أن يسرد يوميات أي مواطن من مواطني الهامش الحقيقيين، أعني غير المرتبطين بوظيفة حكومية أو استثمار هناك، ولذلك فإن اليسار السوداني وفي ظل تضييق الخناق عليه من جانب الإسلاميين الذين استولوا على كل شيء، وليس على السلطة وحدها، بعد يونيو 1989م لم يجد أمامه إلا ركوب الصعب مضطراً، وهو-أي اليسار العريض- حينئذ يتخلى عن ثلاثة من أهم ثوابته الوطنية والأخلاقية وهي: رفض التدخل الأجنبي أو التعاون معه أو تحريكه رفضاً باتاً، وثانياً نبذ الانتهازية والمتاجرة السياسية الرخيصة التي تنطوي على التضحية بأمن وحياة الطبقات المسحوقة، بذريعة تحريكها ثورياً لصالح أهداف الحزب السامية، وأخيراً احتقار النضال/ الصراع بالوكالة كسلوك امبريالي براغماتي، ولكن ذلك كله حدث فعلاً من جانب قوى اليسار في الفترة الأخيرة، ودفع ثمنه إنسان الهامش بصورة قاسية ولا تغتفر، والدليل على ما نقول هو ما تراه العين الآن جراء الحروب المستعرة وتداعياتها الإنسانية، التي لا تنتهي أبداً في ظل التحفيز الدولي والشحذ الداخلي من جانب القوى المعارضة، بل حتى من طرف النظام نفسه كرد فعل عاطفي! . بمعنى أن إنسان الهامش بات بين المطرقة والسندان ولا يدري من يريد له الخير حقاً، طالما أن خير الطرفين مشروط بشر داهم ومستطير يسبقه دائماً دون ينتهي الى أي خير. وهكذا إن نقل الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين الى الهامش تضمن خطايا منهجية فضلاً عن الأخطاء السياسية والأخلاقية، وتتمثل تلك الخطايا، في أن اليسار بدا غافلاً، في غمرة غضبته من المشروع الإسلامي ومحاولته الإجهاز على هذا المشروع ودولته، غفل عن حقيقة كون أطروحاته الايدولوجية في الأساس لا تصلح إلا للتطبيق داخل المجتمعات المدنية، ونظرية الاشتراكية العلمانية مثلاً، وأيضاً النظرية الرأسمالية فيما يلي العلمانيين الليبراليين، هي الأخرى غير قابلة للتطبيق إلا في المجتمعات المدنية، حيث المجتمع منظم بصورة معاصرة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفكرة صراع الطبقات إنما تقتضي وجود مجتمع منظم بما يوفر تلك الطبقات التي ستتصارع وبما يتيح النقابات، بمعنى أنه لابد من وجود علاقات عمل جماعية ومؤسسية سواء في المصانع أوالمشاغل أو في المزارع والمؤسسات، لابد من طبقة منظمين ومستثمرين رأسماليين، وبدون ذلك كله فلا بيئة للصراع الطبقي ولا حتى للنماء الرأسمالي عبر تفاعل عوامل الإنتاج.. ثم ما أدراك ما الديمقراطية الليبرالية، كل هذا لا قابلية له في الهامش. إن الحياة في الهامش السوداني ليست حياة مدنية أصلاً، بل قروسطية، إذ لا توجد بها علاقات عمل ولا قابلية لتشكيل مؤسسات مجتمع مدني حقيقية، اللهم إلا إذا افتعلت على نحو كرتوني، وهذه سرعان ما تنهار لعدم وجود حاجة يستشعرها المجتمع ازاءها أو حتى ثقة في جدواها!. وبالتالي فإن مراهنة اليساريين والعلمانيين عموماً على الهامش ميداناً بديلاً للصراع ضد الخطاب الإسلامي الديني، إنما هو دفع بمساكين في حسابات لا تخصهم وقفزة في الظلام أضرت بالطرفين: العلمانيين ومواطني الهامش، الذين لا يظهرون حاجة ولا قناعة لتبني التوجهات العلمانية لكي تتغير ظروفهم نحو الأفضل، طالما أن هذا الأفضل ليس سوى اتاحة الماء والدواء ووسيلة الانتقال والعمل اليدوي والطريق الممهد بجانب التعليم والشعور بالأمن، ومثل هذه المطالب الابتدائية لا تعدو أن تكون صورة من صور المطالبة بتحويل المجتمع من طور البدائية الى مرحلة المجتمع المدني المعاصر الذي ربما يصلح لاحقاً لتطبيق أهداف الأحزاب اليسارية والليبرالية بعد عمر طويل، فأهل الهامش يريدون الآن أن يكونوا فقراء وبروليتاريا أولاً ، ثم بعد ذلك لكل حادثة حديث. وهكذا فإنه يتعين على أبناء الهامش التخلص من أعباء أجندة اليساريين توطئة لصراع حر ونزيه ومباشرمع المركز باتجاه الحصول على حق التحول من البداءة الى المعاصرة في ادنى درجاتها، وهذا بالتالي نضال ما قبل النضال، ومطلب يستهدف نزع ملف القضية من أيدي العلمانيين حتى ولو كانوا من أبناء هذا الهامش نفسه.. وإلا فمحلك سر.