حرام، كل الوظائف لها شروط ومقاييس صارمة لاختيار الأحق والأولى، ولها وسائل تصفيات وامتحانات، إلا المناصب الدستورية في السودان، فهي همل، ترعى فيها الجياد العوالي بجانب المنخنقة والنطيحة لا فرق، ولكن العجب العجاب حينما يضطر خبراء الوزارة ومبدعوها العمل تحت إمرة وزير غبي أو مستشار متطفل، والله من فوق سبع شداد قال: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)؟.. وأما عندنا فإن السياسة الفجة ترفع الذين تآمروا والذين أوتوا الجهل درجات. طيب، نحن الآن بصدد الجمهورية الثانية، وهي كما أفصح عنها ستتدارك مثالب ما مضى وتتخطاها نحو دولة الحق والحضارة والقسطاس المستقيم.. دون تمييز أو حسابات غير شفافة.. فهل نتوقع أن يعنى عرابو هذا الطرح.. صناع العهد الجديد بقضية هي من أهم عيوب ما انصرم من عهد الإنقاذ؟.. مسألة الاختيار للمنصب الدستوري على أسس تبدو مخجلة أحياناً، وقد أفضت إلى تسطيح المناصب الدستورية وابتذالها بصورة أقرب إلى الأساطير، حتى بات كل من هب ودب يتطلع وتسول له نفسه في جرأة نادرة، اشتهاء تلك المناصب، طالما أنها بلا حرمة، وقد منحت أمام ناظريه لمن يظنهم مثله أو أقل شأناً منه، حيث المقياس ليس إلا: حصة جماعته في لقمة السلطة المفروشة على قارعة الطاولات، أو حصة ولايته أو محليته أو قبيلته من حصص المركز أو الولاية، بغض النظر عن الأهلية الفنية والأخلاقية. والنظام الفيدرالي أيضاً كان من أشد بواعث هذه الكارثة، لأن كل ولاية (وما أكثر الولايات حين تعدها)، لها دولة متكاملة من برلمان وحكومة بمستويات حكم مختلفة ومناصب عديدة محرمة إلا على أهل المنطقة الذين يتنازعونها على أساس قبائلهم وثللهم فقط، فكان أن تصدى للمنصب الدستوري بامتياز: كل غير موهوب، ويقولون (هذا حقنا)!.. يتقاسمون الحكم كما يتقاسم رعاع القناصين الصيد، (أنت كنت معانا وأنت ما حضرت!!)، لذلك لا يبحثون عن أبنائهم الخبراء المتعلمين المعروفين بالنزاهة والكفاءة، ليكلفوهم بتلك المناصب المحتكرة لأبناء الولاية، كلا، بل يتصارع عليها قليلو الكفاءة والذمة، كثيرو التهريج والاحتجاج باسم حقوق القبيلة أو المنطقة أو الجماعة السياسية، وحجتهم أنهم حضروا القسمة. هكذا شاع الطمع والأنانية والانتهازية والكيد للإطاحة بجماعة فلان لصالح أخرى حتى داخل القبيلة ذاتها، والذي يجمع بين كل هؤلاء هو كونهم ليسوا أهلاً لتلك المناصب، ولكنهم يرتجلونها ارتجالاً، ويرتزقون منها تحسيناً لظروف معيشتهم في ظل رواتب تسمن وتغني من جوع السنين الذي ذاقوه، لذا نرى أن خفض رواتب الدستورين بشكل كبير جداً.. مهم جداً ومن شأنه أن يخفض كثيراً من حدة الانتطاح عليها. لقد آن لهذا العبث أن يجد ردعاً دستورياً صارماً يكفي زعماء الأحزاب وقيادتها مؤونة الاعتذار ويرفع عنهم الحرج أمام طلاب المناصب غير المؤهلين، إن البلاد دفعت فاتورة هذا الوضع السيء غالياً يا جماعة كفاية، إن ترك الأمر على عواهنه هكذا لا يزيد الطين إلا بلة خاصة في مناطق الهامش، حيث تنازع القبائل وشيوع الأحقاد وسط الانتهازيين الذين لا يملكون سوى تلك الأساليب لنيل المال السائب، مما أدى إلى عجز إدارة الدولة وانهيار مؤسساتها وشللها انتظاراً مستمراً لعطايا المركز جراء إدارتها من جانب الضعاف في نفوسهم وفي مواهبهم وحيلتهم. إن الدستوريين غير المناسبين (حين يسند الأمر إلى غير أهله)، إنما هم من علامات الساعة، كما أنهم مجرد أفندية غير مبدعين، ولا يعرفون للمنصب قدره ومقداره ناهيك عن حقه واستحقاقه، وهكذا يظل الخاسر الأكبر هو الوطن والمواطن الذي ينتظر فاقد الشيء الذي لا يعطيه أبداً. كفى عبثاً الآن، نحن على مشارف الجمهورية الثانية، فالله الله في حق هذا الشعب وهذا البلد، اعطوا الدقيق لخبازه (من أبناء المنطقة حتى إذا لم يكونوا من الحزب)، وليكن هؤلاء العجزة الموالون لكم.. رقباء على الدستوريين الحقيقيين الجدد. دعونا عن الترضيات القبلية والسياسية، وعن التعيين اتقاءً لشر أحد، لأن تعيينه أشر. المنصب الدستوري لم يعد مقبولاً بعد الآن أن يظل مبذولاً لذوي الألسنة السليطة المتوعدة والممالئة لهذا وذاك بمبدأ شيلني وأشيلك، بل آن الأوان لترسيخ معايير دستورية (يتضمنها الدستور فعلاً)، تحسم الاصطراع الانتهازي بهذا الخصوص، حتى تعود الهيبة لهذه المواقع، لأنها من هيبة الدولة وسيادتها، ولذلك فإننا نتقدم ها هنا ببعض الاقتراحات الموضوعية التي يشترط استيفاؤها قبل الترشح لهذه المناصب المرموقة حتى داخل الأحزاب، ومنها مثلاً: أولاً: ألا يتقلد المنصب الدستوري إلا جامعي مشهود له بالنباهة والذكاء والتميز في مجال تخصصه.. وثانياً: ألا يقل عمره عن الأربعين ولا يزيد قط على الستين.. وثالثاً: ألا تقل مدة خبرته في مجال تخصصه عن السنوات العشر المتصلة.. رابعاً: أن يكون مشهوداً له بالنزاهة والمسؤولية والحكمة واللباقة.. خامساً: أن يقبل العمل براتب وكيل وزارة.. وأخيراً: ألا يكون مجرباً في المناصب العامة لمدة كافية دون أن يفلح فيها بمنجزات واضحة ومشهود عليها من عامة الشعب. فإذا لم يوجد من أبناء المنطقة من يستوفي هذه الشروط، فإنه يجب البحث عمن يستوفيها من مناطق السودان الأخرى بموافقة المجلس التشريعي للولاية المعنية.