الصحافة مهنة البحث عن المتاعب، ومهنة النكد، وأصبحت الآن مهنة كل ما يُهدّد حياة العاملين في بلاطها، خاصة أولئك الذين «يسوّدون» الصفحات و «يبيضّون» ضمائرهم بالرأي الصريح والشجاع. الحكومات الاستبدادية لا تقبل الرأي الآخر، وتُريد من الصحف أن تكون منشورات حكومية لا يظهر فيها من عناوين إلا تلك التي تجيء على شاكلة «قام القائد.. نام القائد» إلى آخر الترهات التي لا يحترمها عقل ولا يقبل بها عاقل. ليس الحكومات الاستبدادية وحدها، بل بعض الجماعات والمنظمات السرية المتطرفة لا تقبل بالرأي الآخر، وحتى هذه ليست وحدها لأن بعض أصحاب المناصب الوزارية «المؤقتة» لا يقبلون بالرأي الآخر أو حق الآخرين في الاختلاف معهم، لذلك يتنمرون ويكشرون عن أنيابهم أمام أي نقد يوجه لهم أو لسياساتهم في وقت يرفع فيه الجميع شعار الحرية والديمقراطية.. لكنّهم أبعد الناس عن تطبيقه. بالأمس تناقلت وكالات الأنباء والفضائيات والمواقع الإلكترونية خبر تكوين لجنة للتحقيق في الاعتداء «الآثم» الذي تعرّض له رسام الكاريكاتير السوري العالمي «علي فرزات» في وسط العاصمة السورية «دمشق» بعد أن شارك في التظاهرات الاحتجاجية ضد نظام الحكم هناك. عدد من الفنانين والمثقفين السوريين أصدروا بياناً حمّلوا فيه السلطات السورية مسؤولية ما تعرّض له الفنان العالمي «فرزات» الذي ذكر أن أربعة ملثمين اعتدوا عليه بالضرب بالأيدي والأرجل وغطوا وجهه بكيس أسود ثم صعدوا الى سيارة مظللة وهم يواصلون الضرب لتنطلق بهم السيارة نحو مطار دمشق الدولي ويتم فتح أحد أبوابها وهي منطلقة ويتم رمي الفنان «فرزات» منها لتتضاعف إصاباته، خاصة وأنه كان قد تعرض الى ما يشبه «تكسير العظام» في أصابع يده التي يرسم بها. حادثة «علي فرزات» لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بالنسبة للصحفيين أصحاب الرأي، والكاريكاتير قطعاً هو رأي جهير حول كثير من القضايا، وربما كان أخطر من الرأي المكتوب كمقال أو في إطار زاوية أو عمود يومي. في الرابع والعشرين من فبراير عام 1980م تعرّض الصحفي اللبناني الكبير الأستاذ سليم اللوزي صاحب ومؤسس مجلة «الحوادث» إلى حادثة بشعة فقد خلالها حياته عندما تم اختطافه من قبل جماعة مسلحة في «بيروت» وتم إعدامه بطلقة في رأسه مع إذابة يده اليمنى - التي يكتب بها - في حامض شديد التركيز، وتم اتّهام المخابرات السورية - وقتها - إبان سيطرتها على الشأن «اللبناني» بارتكاب تلك الجريمة لمواقف الأستاذ سليم اللوزي الرافضة لسياسات سوريا في لبنان. في السودان تعرّض صحفيان للتصفية الجسدية، الأول هو الأستاذ المرحوم محمد مكي المعروف باسم «مكي النّاس» وهو صاحب امتياز ورئيس تحرير صحيفة «الناس» التي كانت تصدر في ستينيات القرن الماضي، وقد تم اختطافه من «بيروت» عام 1970م وشحن داخل صندوق خشبي بمساعدة بعض المنظمات الفلسطينية المتطرفة التي كانت على علاقة قوية مع نظام الرئيس نميري الذي كان شديد الاندفاع نحو اليسار في ذلك الوقت، ليجري بعد ذلك تصفية المرحوم محمد مكي دون إعلان عن إعدامه ولم تتكشف الحقائق إلا بعد حين. الصحفي السوداني الثاني الذي تعرض للتصفية هو زميلنا الشهيد محمد طه محمد أحمد الذي اغتيل ذبحاً في السادس من سبتمبر عام 2006م نتيجة لضيق من أعداء كان خصم لهم بالرأي، ونتيجة لإغلاقهم كل باب للحوار. الصحافة الآن لن تكون مهنة النكد فقط أو مهنة للبحث عن المتاعب وحدها، الصحافة كانت وستظل مهنة الأخطار المفضية الى النهايات الحزينة.