دائماً ما أجد في نفسي ميلاً طبيعياً، أو قل «عفوياً»، يدفعني للحماس للمشروعات الإنمائية العابرة للأنظمة والحقب السياسية، بغض النظر عن رأيي في هذا النظام أو تلك الحقبة، فقد ترسخت في دواخلي قناعة باكرة بأن «صالح الأعمال»، التي هي في صالح الشعوب والأمم تبقى تعمل وتعطي وتفيد حتى بعد ذهاب النظام الذي قام بإنجازها، حتى لو فعل ذلك بدافع تثبيت أركان حكمه أو الدعاية السياسية، فطابع «المشروع» والحقائق والمقومات المادية والواقعية التي ينبني عليها هي في النهاية التي تقرر مدى فائدته، حتى لو صاحبه فساد أو سوء إدارة في مراحل الإنشاء والتشييد. وأقرب مثال للأذهان في ذلك سكك حديد السودان ومشروع الجزيرة، اللذان شيدهما الاستعمار لخدمة أجندته وسياساته الاستعمارية. السكك الحديدية للوصول إلى أقصى أطراف ممكنة، وتسهيل النقل للثروات المنهوبة وتنقل رجال الإدارة البريطانية وموظفيها وقواتها بين المديريات والمراكز في بلد مُترامي الأطراف، ومشروع الجزيرة لتوفير القطن الخام بالأسعار الرخيصة لصناعة النسيج البريطانية في لانكستر ويوركشير. ومع ذلك رحل الاستعمار وتحولت السكة حديد ومشروع الجزيرة إلى خير وبركة على أهل السودان بعد الاستقلال، وشكلتا العمود الفقري للاقتصاد السوداني ولحركة النقل والتصدير في السودان المستقل. وعندما أعلنت ولاية الخرطوم منذ عامين عن عزمها على إعادة النظر في حركة النقل بالولاية، التي بلغت شأواً بعيداً من التدهور بعد سنين سيطرت فيها مواعين النقل الصغيرة -الحافلات والهايسات والأمجادات والركشات- على تلك الحركة، وحوّلت العاصمة القومية -ولازالت- إلى مدينة تعج بالضجيج والزحام والتلوث الصادر من تلك المواعين الكثيرة والصغيرة والمهترئة، تفاءلنا خيراً وقلنا إن القوم أفاقوا أخيراً بأن ما يجري في حركة النقل في عاصمة البلاد أمر غير مقبول وغير معقول. ولكن، من أسف، فإن سلطات الولاية لم تكن قادرة على تغيير الصورة النمطية المؤذية للعقل والوجدان، فاختلط حابل المواعين الكبيرة -باصات الولاية- مع نابل الحافلات بمختلف الحمولات والركشات وازداد الزحام والضجيج والتلوث. ربما بسبب الضغوط التي مارسها أهل «القطاع الخاص العشوائي» على أصحاب القرار في الولاية، الذين «لم يغزوا ولا شافوا الغزا»، فظل الحال على ما هو عليه. بالأمس طالعنا خبراً مفرحاً، أعلنت به ولاية الخرطوم على حصولها على أول عرض لتمويل وتنفيذ «مشروع الترام والمترو»، وأكد والي الخرطوم في تصريح له أن «شركة سامسونغ» الكورية أبدت استعدادها لتمويل وتنفيذ المشروع بنظام «البوت»، أي أن تتكفل بتمويل وإنشاء المشروع واستثماره حتى تستعيد ما أنفقته على المشروع، مع هامش ربح معلوم. بالإضافة إلى مشروعات أخرى تمولها مؤسسات كورية وصينية في مجال الخدمات الأساسية ودعم القطاع الإنتاجي ورفع القدرات والتدريب، ومن بين تلك المشروعات تنفيذ المرحلة الثانية من محطة مياه سوبا بإنتاجية تصل إلى 200 ألف متر مكعب في اليوم ومحطات مياه أخرى، ولكن عيب هذه العروض الأخيرة هي أنها بنظام «البوت» أيضاً، الأمر الذي لا يناسب قضية كتوفير المياه، التي يجب أن تكون «خدمة» وليست «سلعة» للاستثمار، وتتحول بالتالي إلى مجال نزاع بين المستثمرين والمستهلكين، وتكون الدولة قد تخلت طواعية عن تقديم مثل هذه «الخدمة الضرورية» لمواطنيها، مثلما فعلت في مجالات وخدمات ضرورية وأساسية أخرى، بل قد تعيدنا إلى بدعة «الدفع المقدم» المرفوضة شعبياً. ومع ذلك، فإن مشروع «مترو الخرطوم»، إذا ما وجد طريقه للتنفيذ، حتى مع «نظام البوت»، سيصبح هو المشروع الأكثر جدوى، لأنه سيرفع عن كاهل هذه العاصمة حالة الفوضى المرورية ضاربة الأطناب والتلوث المريع الجالب للأمراض والأوبئة ويضفي عليها مظهراً حضارياً طالما افتقدته واشتاقت إليه، بعد أن كانت تتمتع به حتى في عهد الاستعمار. كل ما نرجوه أن يستعجل أهل الولاية في تنفيذ هذا المشروع، وأن يتخطوا حالة التواكل والتراخي والاستجابة للضغوط الصادرة من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة حتى ينقذوا العاصمة من هذه الحالة المتردية، ويكونوا بذلك قد قدموا خدمة باقية وعملاً صالحاً لشعبهم وبلدهم، إعمالاً لقول الحق: «فأما الزبدُ فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» صدق الله العظيم.