ما أن أتجول بين القنوات الفضائية متصيداً أخبار الربيع العربي- كما يسمونه- حتى أجد عصفاً وقمعاً وقتلاً.. وأسمع هتافات داوية وأشاهد صدوراً تتصدى لآلات القصف والنسف.. ودماء تسيل.. ورئيساً يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ويتبع القول بالعمل.. فيطلق أياديه تجوس خلال الديار.. تقتل من تشاء... وتسلب ما تشاء.. ويطلق أبواقه في أجهزة إعلامه تدلس وتنفي.. وتغالط الحقائق المرئية والمعاشة.. كل هذا من أجل أن يبقى الرئيس على مقعده، وأن تتم بدعة توريث الرئاسة لأبنائه من بعده.. مهما كانت درجة فهمهم للحياة.. ومهما كانت سلوكياتهم.. وبغض النظر عن قدراتهم الذاتية.. وأعمارهم ونسبة لياقتهم للحكم- ويكفي أن يحشد لهم جيشاً من الشخصيات النافذة.. والعارفة ببواطن الأمور.. والمنتفعة من عدم خبرتهم.. باستغلال جهلهم هذا في تنفيذ أغراضها وأغراض وسياسات الدول الكبرى.. أعجب من هذا القمع الجنوني ومن ثمنه الباهظ.. وأتساءل.. ألا يحس هؤلاء الرؤساء بتأنيب الضمير.. ويخشون المساءلة أمام الله تعالى.. وأعود إلى قوله تعالى: (... يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك مِنْ مَنْ يشاء).. فعملية الإيتاء قد تكون سهلة أو بجهد قليل.. كنتيجة لانتخابات نزيهة أو غير نزيهة.. ولكنها لا تكلف أرواحاً.. وإن كلفت مباديء وضمائر تباع وتشترى.. أما عملية (النزع) فهي تعكس مدى تشبث الإنسان بالرئاسة وأن الخلع عنده موازٍ لخلع الروح.. فيستميت في الصراع من أجل البقاء.. لا يهمه الثمن الذي يدفعه المقاومون لبقائه.. وينسى أن الله قادر على نزع الحكم منه إذا أراد.. ولن ينفعه سياجه الأمني.. ولا عتاده الذي يسرف في استعماله.. ولا نظرته الدونية للناس.. وكأنهم يأخذون منه حقاً خالصاً له.. بل يصفهم ب (الجرذان).. والمتآمرين والعملاء.. وغير الوطنيين.. بل وهو الذي جثم على صدورهم عشرات السنين.. واستعبدهم.. ووضع أموالهم بالبنوك الخارجية.. واستمتع بالقصور.. والامتيازات.. ووزع منها ما يشاء على من يشاء من الذين يسيرون في ركبه.. فإذا فاض الكيل.. وهب الشعب قائلاً: يكفيك ما حكمت.. وما أخذت.. وما ظلمت.. وما استمتعت به عدة قرون.. تنحَ عن الحكم.. جن جنونه.. وثارت ثائرته.. وأخذ يضرب يمنة ويسرة.. ويستعدي عليهم الدول التي ترزح تحت (فوبيا) الإرهاب- بحجة أن وجوده يؤمن لهم القضاء على الإرهاب.. وهو في الحقيقة يريد أن يؤمن بقاءه وإفلاته من المساءلة والمحاسبة. ما أعجبت بشخص مثلما أعجبت بالمشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي سعت إليه الرئاسة تجرجر أذيالها ولم يسعَ لها.. حدثني أحد الوزراء أيام الرئيس السابق النميري قال: كنا في اجتماع مع النميري بقاعة الصداقة.. وكان الرئيس نميري سيخرج من الاجتماع ويتوجه إلى المطار في (رحلته الأخيرة رئيساً).. قال الوزير.. وكان لي أمر مع المشير سوار الذهب.. وعقب الاجتماع دخل الرئيس مكتبه بقاعة الصداقة.. فأخذت المشير سوار الذهب جانباً وبدأت أتحدث إليه بعد أن علمت منه أنه غير مطلوب منه الذهاب إلى المطار لتوديع الرئيس.. وقال مواصلاً حديثه.. وبينما نحن نتحدث جاءنا أفراد من الأمن وأبلغونا أن الرئيس خارج.. فانحزنا إلى جانب وجاء الرئيس ماراً.. فحياه المشير بالتحية العسكرية وخرج .. كلما أتذكر هذا المشهد الذي رواه لي الوزير.. أقول في نفسي طبعاً.. ما كان المشير سوار الذهب.. يتخيل في تلك اللحظة أن هذه ستكون آخر تحية يؤديها للرئيس النميري.. كما أنه حسب ظني ما كان في حساباته أن يحل محل الرئيس نميري.. وقامت الانتفاضة بغياب النميري.. ووقف الرجل الشجاع.. العاقل الواعي.. إلى جانب الشعب المغلوب.. ولم ينضم إلى أجهزة القمع .. محركاً.. ومدبراً.. وآمراً.. وعادياً.. ونجحت الانتفاضة.. وكلف المشير سوار الذهب برئاسة المجلس ولفترة يسلم بعدها الحكم لحكومة مدنية منتخبة.. وفي أثناء العام وكما علمت من سياسي عارف- عرض على المشير تمديد الفترة الانتقالية لثلاثة أعوام.. فرفض وجرت محاولات لجعلها عامين فاستعصى ورفض بحجة أنه قطع وعداً للشعب.. وأقسم على عام واحد.. ويوم اكتمال العام كان يزمع التخلي عن الحكم.. ولكن كما قال السياسي لم تكن الإجراءات الدستورية قد اكتملت.. فالمرحوم بإذن أحمد الميرغني.. وكذلك السيد الصادق المهدي كان عليهما تأدية القسم.. الأول كرئيس للدولة والثاني كرئيس لمجلس الوزراء.. وكان الأمر يحتاج إلى أسبوع آخر حتى لا يكون هناك فراغ دستوري.. قال السياسي لجأنا إلى المشير سوار الذهب.. وبعد لأي وافق على تمديد أسبوع على أن يكفر عن يمينه بالصيام.. وركل الرجل العظيم الحكم.. واختير من قبل منظمة الدعوة الإسلامية فكان نعم الاختيار.. لم تسعدني الظروف بالتعرف على هذا الرجل.. ولم أصافحه إلا مرة واحدة في مطار أبوظبي.. وكنت في استقبال قادم من السودان.. فجاء هو خارجاً من المطار فوجدني أمامه.. فمد يده مصافحاً.. فأحسست بنوع من الحميمية في مصافحته.. وأصدقكم القول أن المفاجأة أبعدتني عن التعرف عليه.. ولم أتبين ذلك إلا بعد غيابه.. فتمنيت لو أنني كنت عرفته.. وحييته بكل ما أملك من مشاعر الود والعرفان وأبلغته بمدى إعجابي به.. ونحن مأمورون بأن أحدنا إذا أحب الآخر فعليه أن يبلغه بحبه له. لك التحية يا سيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب.. فقد كنت مثلاً أعلى.. أقتديت بخالد بن الوليد.. يوم أن خاف عليه الخليفة عمر بن الخطاب الفتنة.. فأمره بتسليم القيادة لأبي عبيدة بن الجراح.. فما كان منه إلا أن القى القيادة إلى أبي عبيدة بن الجراح (وانضم للجند يمشي تحت رايته).. أي راية أبي عبيدة.. ولم يتذمر أو يعزل نفسه من الجيش على سبيل الاحتجاج.. والخوف من مسؤولية الرئاسة يتجلى في قولة عمر بن الخطاب (لو عثرت بغلة بالعراق لخشيت أن يسألني الله عنها.. لِمَ لَمْ تسوِ لها الطريق يا عمر؟). فما بال الحكام العرب والمسلمين الذين تعثرت شعوبهم في كل ضروب حياتهم.. لا بغالهم. أمد الله في عمر المشير سوار الذهب.. وله أسوق التحايا والتقدير.