يُمثل إعداد وإجازة مشروع الموازنة العامة الهم الأكبر والشغل الشاغل للدولة السودانية طيلة الربع الأخير من كل عام ميلادي، حين تنتظم البلاد في حركة دؤوبة توطئة لإقرار هذا المشروع الذي يقنن ويحكم النشاط الاقتصادي، والأداء المالي للحكومة لعام كامل يبدأ في الأول من يناير وينتهي في أواخر ديسمبر من ذات العام. وعملية الإعداد هذه تمر بمراحل شاقة ومضنية، وتتخللها اجتماعات ومناقشات مكثفة ومطولة، تبدأ أولاً داخل الوزارات والوحدات الحكومية المناط بها تقديم مقترحات لموازناتها، وإقناع ممثلي وزارة المالية بها، حتى اذا اكتملت الصورة العامة وفق الموجهات المقررة، دُفع بالمشروع إلى القطاع الاقتصادي بمجلس الوزراء، ومن بعده للمجلس الموقر نفسه، فيدخل عليه ما يراه من تعديلات وتغييرات قبل إحالته للمجلس الوطني مع أية مشروعات قوانين مصاحبة ومرتبطة به، خاصة تلك المتعلقة بالضرائب والمكوس والرسوم والجمارك، وكل ما هو متصل بالإيرادات والمصروفات العامة، وفق الدستور وتحديداً المادة (111)، يتوجب أن يشتمل مشروع الموازنة العامة على تقويم عام للموقف الاقتصادي والمالي للبلاد، وتقديرات مفصلة للإيرادات والمصروفات المقترحة للسنة القادمة، مقارنة إلى واقع السنة المالية المنصرمة، وكذلك على بيان حول الموازنة العامة، ولأي أموال احتياطية، أو تحويلات إليها، أوتخصيصات منها، وإيضاحات لأي موازنات خاصة، أو بيانات مالية، أو سياسات، أو تدابير تتخذها الدولة في الشؤون المالية والاقتصادية للبلاد، وكذلك المقترحات المتعلقة بالاقتراض، أو الاستثمار، أو سندات الإدخار الحكومية. وبالنسبة للبرلمان، فنظر وإجازة مشروع الموازنة يُعد واحداً من أهم وظائفه الدستورية، بل إن الاختصاص المالي للبرلمان يُعتبر الاختصاص الأقدم تاريخياً، لأنه كان المبرر الأساسي لنشأة المجالس النيابية في إنجلترا مهد النظام البرلماني، وكما هو ثابت ومعروف، فإن الملوك الإنجليز عندما أسسوا مجلس العموم، والذي كان يضم الإقطاعيين والنبلاء، إنما كان ذلك لغرض واحد وجوهري، وهو إقرار الضرائب والمفروضات المالية التي سوف تُجبى من الشعب، إذ أنه في ظل النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في العصور الوسطى، لم يكن هناك من سبيل للحصول على الأتاوات والضرائب، إلا عبر كبار ملاك الإقطاعيات. من هنا نشأت تلك الصلة الوثيقة بين البرلمان وجباية المال من الشعب، ولهذا كان رفض سكان المستعمرات البريطانية في أمريكا، دفع الضرائب لبريطانيا في غياب تمثيل برلماني ومؤسسات نيابية منتخبة من الشعب الأمريكي، ولقد عبر عن ذلك الرفض بالشعار الخالد للثوار الأمريكيين على الحكم البريطاني (No Taxation with out Representation ) وترجمته (لا ضرائب دون تمثيل برلماني). ولقد جرى تطوير هذا الشعار في عصر النهضة الأوربية، عشية الثورة الفرنسية الكبرى، بإضفاء فلسفة سياسية عليه، ليكون أساساً لنظرية السيادة الشعبية. وتتلخص الفكرة الجوهرية لهذه النظرية، في أن السيادة- أي الكلمة الفصل والنهائية في الشأن العام- هي للشعب وليس للملوك والأباطرة، وبالتالي فإن اختيار الحكام وتبني السياسات، وسن القوانين، والرقابة على السلطة التنفيذية، هي صلاحيات أصيلة للشعب لا ينازعه فيها أحد. ولما كان لا يتصور أن يمارس الشعب مظاهر هذه السيادة مباشرة مجتمعاً كما كان الحال في عهود الدول المدينية، مثل أثينا وروما، ذات الكثافة السكانية القليلة، فالبديل العملي أن يمارسها عبر نوابه وممثليه في البرلمان، وأفضى ذلك إلى ظهور الديمقراطية النيابية والتي بموجبها يقوم الناخبون بتفويض مناديب عنهم هم نواب البرلمان، للتحدث باسمهم والتعبير عن إرادتهم، وعكس تطلعاتهم ورؤاهم. وحيث إن الموازنة العامة هي في نهاية الأمر أداة لجمع إيرادات من الشعب، وإنفاقها وتوزيعها على المرافق العامة والتنمية والخدمات، يغدو من المنطقي والبديهي أن يتم ذلك برضا ومباركة ممثلي الشعب داخل المؤسسة التشريعية، ومن الطبيعي أن يكون لهؤلاء الممثلين الحق في إبداء الرأي بشأن كيفية جمع الإيرادات العامة وتقديرها، وأيضاً بشأن التصرف في هذه الأموال من حيث المقدار ومن حيث ترتيب الأولويات. من هنا يمكن فهم حرص كل الدساتير المعاصرة، على تضمين إقرار الموازنة العامة من بين وظائف ومهام البرلمان الأساسية، ولضبط هذه العملية رؤى أن تصدر الموازنة في شكل قانون، يطبق عليه ما يطبق على القوانين الأخرى من حيث اتباع مراحل إجرائية محددة، فضلاً عن إلزامية تقيد الحكومة به، وحظر الخروج على أحكامه، أو مخالفتها، بل وترتيب جزاءات سياسية وجنائية في هذه الحالة. وفقاً لذلك فإجازة مشروع الموازنة يعتبر عملاً تشريعياً ورقابياً وتخطيطياً في آن واحد، وقلمّا تتوفر هذه الصفات في مفردة برلمانية. فالجانب التشريعي كما سلفت الإشارة، يتجسد في صياغة الأرقام، ورصد المبالغ المخصصة في قالب قانوني، وتبويب الأحكام طبقاً للتبويب المعمول به في وزارة العدل وإدارة التشريع عند إعداد الصياغة النهائية لمشروعات القوانين، كما أن أي مشروع موازنة يحتوي على بضع مواد ونصوص قانونية قليلة في عددها، لكنها تنطوي على أهمية كبرى، إذ هي تعطي التقديرات المالية والمبالغ المخصصة للوزارات المختلفة القوة الإلزامية والأثر القانوني المطلوب، كما أنها تشمل الأحكام التقليدية التي تصدر كل عام، والتي تحظر تجاوز الاعتمادات، أو إجراء تعديلات في الفصول والبنود دون الرجوع للبرلمان، علاوة على النص على العقوبات في حالة الاختلاس، أو خيانة الأمانة، أو تبديد المال العام، عبر الإهمال، ومما لا شك فيه أن أي تدبير يتخذه البرلمان يعتبر توصية لها وزنها البرلماني والسياسي الكبيران، لكنها لا تكون ملزمة بصورة قاطعة إلا إذا صدرت بقانون. أمّا الصفة الرقابية لإجراءات نظر وإجازة مشروع الموازنة، فتتمثل في تمحيص النواب للاعتمادات وتوزيع الموارد، وفي تقويمهم للسياسات والموجهات الاقتصادية التي تعبر عنها الموازنة، خاصة السياسات الضريبية التي تثير دائماً الجدل، وينقسم النواب بشأنها بين مؤيد ومعارض، كما أن مناقشة الموازنة تعد مناسبة وسانحة لتوجيه النقد لأداء المؤسسات والوزارات والوحدات الحكومية المختلفة عند الحديث عن المبالغ المخصصة لهذه المؤسسات والوزارات. في سوابق عديدة في تجربتنا البرلمانية، كان عرض مشروع الموازنة فرصة للمعارضة للنيل من الحكومة، وقد يصل الأمر إلى محاولة إسقاط الحكومة عبر إسقاط الموازنة، كما حدث في 1956م عندما أسقطت حكومة الأزهري الأولى بعد رفض مجلس النواب للموازنة وحتى عهد قريب أيام الديمقراطية الثانية (1965- 1969م) كان مجرد إقرار تخفيض رمزي لأي بند من بنود الميزانية (10 قروش مثلاً)، يعد في العرف البرلماني رفضاً للمشروع بأكمله مما سيقود حتماً إلى طرح الثقة في الحكومة. ونواصل في الحلقة القادمة بإذن الله.. والله من وراء القصد..