ثمة بوح عالق في حنجرتي ولا أتحرج في إطلاقه من عقاله بين سانحة وأخرى، وهو أنني مع الإنقاذ إلى نصف الكوب، فإذا أصابت مدحتها وإذا خابت ذممتها، وربما كان هذا ليس نصف الطريق إلى الإنقاذ، إنما هو كل الطريق إذا انفعلت الإنقاذ انفعالاً حقيقياً مع قضايا الجماهير، وغالباً لا يحدث ذلك إلا لماماً، ومن هذه (اللمام) إذا صح التعبير، مسألة رفض البرلمان لزيادة أسعار المحروقات بواقع جنيه ونصف الجنيه لجالون البنزين مثلاً، وهكذا فاجأنا يوماً الوزير المثير الذي دعا المواطنين لأكل الكسرة وهو ينعم بالديباج والحلي والحلل، ويسكن في (إيوان كسرى).. وطلب من الحفاة المشي على سطح الحديد الساخن (الدوكة) وأكل الكسرة بدلاً من الرغيف، ولأنه يسكن في (إيوان كسرى)، لا يعرف أن (الكسرة) أصبحت أغلى من الرغيف، وحسب علمي أن الوزير المثير لا يأكل الكسرة لأنه أحد سكان (إيوان كسرى)، وبالرغم من أنه ينتمي إلى قبيلة (التعايشة) التي أهدتنا البطل الشهيد الخليفة عبدالله التعايشي (ود تورشين)، لا أدري لماذا لم يأخذ هذا الوزير المثير من اسم البطل الشهيد إلا آخره في تصريف مهام وزارته واتخاذه دوماً (القرار الشين)، مرة كسرة ومرة بنزين ولا أدري لمتين يا مولاي يستمر هذا الوزير المثير في منصبه، ومن ثم فإذا لم يدركه أدب الاستقالة فعلى ولي الأمر التوكل على الله والاستمساك بأدب الإقالة، لأن الوزير الذي يفكر فقط في (القروش) ولا يهمه كيف يكون حال الذين يفترشون البروش ويلتحفون الشتاء ويتناولون السكر المغشوش، ولطعامهم لا يجدون حتى حق البوش، ويوماً قالها المشير البشير (توكلت على الله) وأصدر قراره الشهير بحل البرلمان ومن ثم ذهب (الشيخ) إلى بيته وأقام السرادق الفسيحة لتقبل العزاء على روح المنصب الذي فقده تاركاً خلفه زمناً لم يلبِ طموحاته الملهمة لمقولته الشهيرة (انتهى زمن الإمام الثائر وحان زمن الإمام العالم)، ولكن للأسف الشديد خرجت من عباءة زمنه كل العيوب التي نعاني منها الآن، زمنه الذي خلف تراكمات غير (قابلة للكسر) وأصبح كل شيء، كل شيء تقريباً مثلما يحدث تماماً، تماماً في مدينة مستباحة، أصبح كل شيء، كل شيء مباحاً، أصبح كل شيء وأي شيء متاحاً، ولكن وللأسف الشديد جداً أن هذا (المتاح) حصري جداً على فئة صغيرة جداً بمعادل قطرة في محيط، ورغم ذلك ظل ويظل وسيظل هذا (المتاح) حصرياً جداً على تلك الفئة الصغيرة جداً إلى أن ترث تلك الفئة الصغيرة جداً الأرض وما عليها من بشر، تماماً، تماماً كما كان يحدث في الجنوب الأمريكي في القرن التاسع عشر، حيث كان النبلاء من طبقة اليانكي حينما يملون فلاحة الأرض يبيعون الأرض وما عليها من حجر وبشر، ويؤول (كوخ العم توم)، بل العم توم نفسه وزوجته وبناته وأبناؤه إلى المالك الجديد. أيها السادة يحدث ذلك الآن في السودان مع فارق ضئيل هو أن المالك الجديد لأرض السودان ليس نبيلاً من طبقة اليانكي وإنما هو نبيل (وطني) صنع في السودان فقط.. فقط قبل عقدين من الزمان، تصوراً! وإذا لم تتصوروا عليكم أن تتهيئوا لاستقبال تصور عجيب وغريب وهو أن النبيل (الوطني) الجديد لم يكتفِ بحيازة الأرض والحجر والبشر، وإنما عقد زواجاً (كاثوليكياً) مع السلطة واتخذ من قلعة (النادي الكاثوليكي) عشاً للزوجية الأبدية، إذ تقول التعاليم الكاثوليكية لا طلاق إلى الأبد وإنما زواج إلى الأبد ولا يفرق بين الزوجين إلا الموت، وهذه نهاية طبيعية للحياة حينما يطرق عزرائيل باب أي إنسان، يحدث ذلك لأي باب إلا باب النادي (الكاثوليكي) حيث امتدت الحياة بمرتاديه الذين قدروا لأنفسهم امتلاك جواز سفر إلى الحياة الأبدية وهم بذلك واهمين لأنه ليست هناك حياة برزخية، فكل شيء إلى زوال مهما طالت الآجال وإن كان عزرائيل يتمهل في طرق تلك الأبواب، فإن (الربيع العربي) يستطيع أن يفعل ذلك، وقد بدأت بالفعل نسائم (الربيع العربي) تغازل زفرات (الصيف السوداني) الذي علم الشعوب كيف يكون طوفان الثورات، فاندلعت ثورات الصيف السوداني بين حقبة وأخرى، كان نوفمبر، كان أكتوبر، كان مايو، كان أبريل وجاء أخيراً يونيو ولعله في أكتوبر وحده اندلعت ثورتان، الأولى في دار جعل (بلد الرئيس)، حيث تفجرت (ثورة الغليون) فثار المك نمر على إسماعيل باشا حينما أهانه الباشا وقذفه بغليونه الطويل، فكان الحريق الكبير الذي التهم إسماعيل وغليونه الطويل، أما الثورة الثانية فقد تفجرت بين داخليات جامعة الخرطوم، حيث استشهد ذاك الفتى (القرشي) الجميل، فحملت الجماهير نعشه المضرّج بالدم وضربت به الجماهير (أكباد الإبل) إلى قرية (القَراصة) مسقط رأس الشهيد، وبعدها جاء صهيل (الصيف السوداني) في مايو 1969م، فكانت ثورة مايو التي أصر على أنها كانت ثورة وليست انقلاباً، لأنها أهدت الجماهير السودانية بكافة أطيافها السياسية وخاصة الإسلاميين، أغلى جوهرة هي الاحتكام بالشريعة الإسلامية التي حملت من بعد اسم (قوانين سبتمبر) التي صحبتها بعض الاجتراحات المعيبة ولكنها كانت على أي حال مدخلاً إلى الاحتكام بشرع الله، وفي (الصيف السوداني) تفجرت أيضاً عام 1985م انتفاضة الجماهير التي سرقتها الأحزاب، وفي عام 1989م ثار (الصيف السوداني) مرة أخرى، وجاء بثورة الإنقاذ التي قادها أحد أبناء دار جعل العميد آنذاك عمر البشير، وربما تكون الإنقاذ خلال عشريتها الأولى قد بدلت جلدها من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية التي تدثرت بعباءة طيب الذكر (المشروع الحضاري) الذي رعاه واستزرع أرضه (شيخ) أتى من الضهاري ليحكم الخرطوم فحكمته الخرطوم وذهب مبكياً على شيخوخته المتأخرة التي قضى جلها في المعتقل بعد زلزال المفاصلة الذي أطاح به وبمشروعه الحضاري، والآن لم يبقَ من ذاك المشروع سوى لفظه (الحضاري)، حيث إن القابضين على (كردمان) سلم الصولجان اعتلوا ذاك السلم و(توهطوا) في كراسي صالون الصولجان، وآثروا وتباذخوا دون خوف من إملاق، تنكروا ل (الصيف السوداني) الذي أتى بهم إلى صالون الصولجان، تزينوا بأفخر الثياب وناصع الجلباب، العمة توتل سويسري والجلابية بيضة مكوية صناعة يابانية، وأحياناً سكروتة من إيران، والعمائر (قولوا يا لطيف)، تشاهق البنيان وتقزم الإنسان في السودان حتى أصبح إنسان السودان واحداً من رعايا تلك البلاد الأسطورية التي حمل اسم إحداهن عنوان (جلفر في بلاد الأقزام)، أما عن عنوان (جلفر في بلاد العمالقة)، فإن (الوسطاء يمتنعون) إزاء (العطاء) الحكومي والدولة غير مقيدة بقبول أقل عطاء في مسألة العمالقة، لأنه انتهى فعلاً زمن العمالقة، إسماعيل الأزهري الذي غادر الفانية وبيته مرهون، يحيى الفضلى الذي غادر الدنيا وترك أسرته تعيش في بيت إيجار، ومحمد نور الدين الحلفاوي الفصيح الذي غادر الدنيا أيضاً وترك أسرته تعيش في أحد المساكن الشعبية بالخرطوم بحري وجعفر نميري الذي غادر الفانية وترك زوجته بثينة خليل تعيش وحدها في بيت الأسرة بود نوباوي، وكذلك رحل الرائد زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر وترك أسرته تعيش في بيت الأسرة، أما الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم الذي كان يشغل منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، وكذلك الرائد خالد حسن عباس فكل منهما كان يعيش في بيت أبيه، أما المقدم صلاح عبدالعال مبروك (الموردابي) الشهير، فهو يعيش من عائد (كافتيريا) متواضعة (خمسة هموم). بقي القول في نهاية المطاف إنه كان عليّ أن أعتذر لكل من أصابه رشاش قلمي وفي مقدمتهم (الشيخ) العالم الذي سأظل احترم فكره واجتهاده منطلقاً من القاعدة الذهبية والقول المأثور (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، أما الوزير المثير فقد كتبت يوماً عنه في زاويتي هذه مشيداً بمقدمه كوزير هو ومولانا دوسة كرمز لعدالة الإنقاذ في قسمة السلطة، أما فيما يختص بقسمة الثروة أقولها على رؤوس الأشهاد (خلو الطابق مستور).