بعد أن أسرف حسن الترابي في العداء والازدراء وكيل التُّهم جُزافاً لتلاميذه الذين خرجوا عليه وخرج عليهم، عاد ليمدح نفسه ويزكِّيها ويقول: أنا لا أحقد على أحد، من قبل عملت مع النميري وحرضوه ضدي، وأكثر فترات اعتقالي كانت في عهده، ومع ذلك لم أذكره بسوء... والخلافات بين الإسلاميين وقعت «نتيجة الخلاف» على مبادىء وأصول الحركة التي تقوم على الحرية، والشورى، والطهر، والوفاء بالعهود، والمواثيق، والاختيار وفقاً للمشيئة، حتى في إمامة الصلاة، ولكنهم نقضوا الإيمان بعد توكيدها.وما ذكره في هذه الفقرة غير صحيح البتة.. فقد ذكر نميري بكثير من الاستهزاء والهجوم، وما فتئ يسخر منه طوال عهده، وكان أكثر هجومه عليه يوم سقط.. ومحاضراته بالميدان الشرقي بجامعة الخرطوم، وغيره من الميادين والساحات شهود على ذلك، ولم يذكر الترابي قط أنه قد عفا عن النميري أو تجاوز وصفح عنه، كما فعل الأئمة من فحول الأتقياء، كابن تيمية الحراني، رضي الله عنه وأرضاه، الذي عفا عن كل من سجنوه من الأمراء، وصفح عن كل من حرَّضوا عليه من مقلِّدة العلماء والفقهاء. الغيظ البركاني وأما محنة الترابي الحالية التي طالت وستطول- كما يبدو- مع تلاميذه الأقدمين، فقد فجّرت براكين حقده وغيظه بشكل بركاني مهول، فأمسى لا يفضي بحديث إلا في أمر صراعه المرير من أجل السلطة، وما يشكو من ادعائه بسلبهم قياد السلطة من بين يديه وخيانتهم عهد الولاء له، وهو من عشر سنين أوزهائها قد ذهل عن كل أطروحاته التجديدية، وعن مضامين رسالته الفكرية، التي كانت علامة ميزته على الوسط السياسي السوداني، فعاد على إثر ذلك سياسياً عادياً تقليدياً، كقادة الحزبين التقليديين والحزب الشيوعي،لا هم لهم إلا السعي إلى نيل السلطة اغتصاباً، وفي سبيل ذلك نصبوا الكيد لمن هو على سدتها، وأشعلوا في الوطن حرائق التمرد والخراب. التلاعب بالعامل العنصري وشخصياً كان أكثر ما أثارني على حسن الترابي، وأفقدني الثقة به نهائياً، هو اتجاهه للتلاعب بالعامل العنصري، الذي لا يتعامل به سياسي شريف. وإذا كان ساغ لحسن الترابي، ولبعض أتباعه الكذب، وإنكار اعتمادهم على العامل العنصري، وتجييشهم لعصابات العدل والمساواة العنصرية، فإن في لحن القول الذي يصدر عنه ما يكشف خفاياه وطواياه، واسمع إليه يجيب المحرر الشيوعي المتواطئ مع حركة التمرد الجنوبي عن سبب اعتقاله الأخير، وما إذا كانت السلطات الأمنية قد حققت معه بقوله:«العنصرية غلبت علينا». فهل يقصد الترابي بقوله هذا: إن الحكومة عنصرية لأنها اعتقلته مع أتباعه من أعضاء حركة العدل والمساواة ومخربيها؟ أم أراد أن يقول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق، فيؤكد أن العنصرية قد طغت على حزبه الموصوف زورًا بالشعبي، والذي فقد كل سند شعبي، وأمسى لايعوِّل إلا على سند قبلي جهوي عنصري يشحنه بدعوى التهميش، ويستغله لإشعال الحروب. التظاهر بالوداعة وعندما سأله المحرر الشيوعي السؤال المحرج الوحيد في حواره، وهو السؤال المركز على أسباب غفلته «التاريخية»! عن تآمر تلاميذه عليه، حتى فوجئ بانتزاع السلطة منه، أجاب إجابة قاصرة وغير أمينة، حيث لم يعترف بأنه هو الذي ابتدر التآمر، وفجّر أول فصول الصراع، بتأليبه لعشرة آلاف شخص ضد عشرة أشخاص! وتظاهر بأنه كان غِرًا وديعاً يحسن الظن بالآخرين، وقال: «طبعاً بيننا عهد الإخوة ورابطها الوثيق وكنا نغلِّب حسن الظن في إخواننا، ونستبعد كل الاحتمالات بوقوع خيانة، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب».. وهكذا جاءت إجابته تتسربل بسرابيل المثالية الكاذبة، التي علل بها انهزامه أمام إخوانه وتلاميذه،، وأما الآية الكريمة التي ساقها فلعلها تنطبق عليه دون الآخرين!. وتماشياً مع خيوط المثالية المتهافتة، ادعى الترابي في إجابة عن سؤال آخر قدّمه له المحرر الشيوعي- الغيور على العمل الإسلامي- قال فيه: ما مدى تأثير الفتنة على المشروع الإسلامي؟ ادعى الترابي أنه كان يريد أن يجدد حكم الخلفاء الراشدين! وقال: كل الثورات الفكرية في العالم شابتها عيوب في مرحلة من مراحلها، الثورة الفرنسية جاءت بشعارات ولكنها سرعان ما تحوّلت لضدها وسقطت في الفتنة، كذلك الشيوعية تمددت ثم تراجعت وانهار المعسكر الشرقي وكذلك البعث في العراق والأمثلة لا تعدِّ ولا تحصى، وكان الناس ينظرون إلينا بأننا أول نواة لدولة تعيد سيرة الحكم الراشد، لكن حقيقة لم تكن لدينا تجارب سابقة ولم نعتبر بعبر التاريخ والفتنة التي ضربت الصحابة بعد حكم الراشدين، وبالرغم من دراستي القانونية وإلمامي بالدستور المقارن لم تكن لدي فكرة انتقال بالفكر الديني لفتن السياسة.. وهذا الأمر فيه نظر، لأنه احتوى على مبالغة شاسعة، فمن كان يظن أو يأمل أن الحركة الإسلامية السودانية بكل عُجَرِها وبُجَرِها يمكن أن تجدد عهد الخلفاء الراشدين؟ لم يقل بذلك حالم ولا يقظان، فأكثر ما كان مطلوباً من الحركة الإسلامية السودانية هو أن تحمي أرض السودان من تغوُّل حركة التمرد الجنوبي، التي غدا الترابي وحزبه يتحالفون معها الآن، وكان مطلوباً منها أن تجتهد بعدذلك قدر الإمكان في تطوير الاقتصاد الوطني، والتقدُّم بالوطن حثيثاً على درب الدعوة والتنمية والازدهار، ولم يكن مطلوباً منها، وما كان بمقدرتها، ولم يكن جزء من برامجها، أن تحيي عهد الخلافة الراشدة بالسودان!. فهذا جزء من مِراء الترابي الذي أصبح يدمنه ويدمن التعلُّق بالشعارات والمثاليات، كحديثه الذي لا ينتهي عن بسط الحريات والفيدرالية. تزكية الذات وفي عود منه لتزكية نفسه قال إنه على غزارة علمه ندَ عنه أن يدرس موضوع الفتن في عهود الانتقال.. قال هذا وكأنه يعني ضمناً أنه إن لم يدرس هذا الموضوع المهم بنفسه، فلا أحد غيره قادر على دراسته أو الإلمام به. فهو وحده ولا شخص غيره المفكِّر الأوحد، الذي ينبغي يدرس المسائل النظرية الشائكة، ويحلها، ويقرر فيها وفي الأمور الكبار، تماماً كما هو دأب الصادق المهدي في حزب الأمة وكيان الأنصار.. ولذلك قام الترابي عمدًا في الماضي بتعطيل النشاط الثقافي والعلمي في الحركة الإسلامية السودانية، التي كانت تحتاج في طورها القديم إلى الكثير من الدراسات والمدارسات النظرية من هذا القبيل، والتف بمهارة سياسية بارعة على كل طلب منّا لتحقيق شيء مثل ذلك، وسخر منّا سرّاً بأننا «مفكراتيون» لا يجيدون سوى التنظير. الغارة على السلفيين ولأن حسن الترابي أصبح في حلف مع حركة التمرد الجنوبية، وعملائها في الخرطوم، من أمثال محرر «أجراس الحرية»، فقد توجَّب عليه أن يبدي انزعاجه لما ينزعجون منه، ولذلك قدّم له المحرر طرف الخيط عن السلفيين ووصل به هو إلى غايته القصوى. وهكذا بدا الطرفان: طرف المؤتمر الشعبي، وطرف الحركة الشعبية، منزعجين انزعاجاً شديدًا من انتشار حركات الأصالة الإسلامية السلفية وتغلغلها في البلاد.. وقد جاء استدراج المحرر الشيوعي للترابي بهذه الصيغة:«هناك انعطاف تجاه الحركة السلفية ورموزها د. عبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم». وجاء تأكيد الترابي على قول المحرر الشيوعي واستكماله له بهذه الصيغة:السلفيون ينتقدون قباب الصوفية المساكين، ولكنهم يسكتون عن قباب القصور والفساد الذي تحتها... ومنهم من يخرج أحياناً معبِّراً عن احتجاجه، ولكن سرعان ما تتغير خطبهم ويمدحون السلطان إذا حضر«. فأي اختزال أقل أمانة وموضوعية لتاريخ الحركات السلفية من هذا الاختزال، الذي أجاب به الترابي عن شبه السؤال، الذي وجهه إليه المحرر الشيوعي، المتفق معه ابتداءً في الجواب؟!. ولابد أن نذكر أن حسن الترابي الذي عرفناه قديماً لم يكن يأبه بالحركة السلفية ولا يعيرها أدنى اهتمام. ولكن لما بدا أن حركة التمرد يهمها أمرها فقد تحتم عليه أن يبادلها الاهتمام، وأصبح متوجباً عليه بحكم هزيمته السياسية، أن يتماهى مع حركة التمرد الجنوبية، وينسجم معها على التمام.. وليس مهماً أن ندافع عن الحركة السلفية هنا، فهي أولى بأن تدافع عن نفسها، وإنما كان همنا تفنيد أقوال هذا الزعيم الذي فقد ظله، وأصبح يترنّح بأقوال يخبط بعضها على بعض.