فجرت المذكرة التصحيحية دوياً هائلاً (بق بونق) في أوساط الحركة الإسلامية، حيث ارتعدت خوفاً وامتلأت رعباً من فوبيا انشقاق جديد في صفها، غير أنه تأكد هندسياً على الأقل أن الذراع السياسي والتنفيذي للحركة قد تجاوز مرحلة الخوف، وذلك لأن هذا الذراع ينتهي بأصابع فولاذية قابضة على مفاصل السلطة والصولجان.. بينما ظلت القاعدة في مكانها فيما يعرف عسكرياً ب (خطوات تنظيم)، وكان هذا مؤشراً لبدايات ترسب الغبن في نفوس الكثيرين الذين يمثلون الحركة الإسلامية، إذ أنه وفي بواكير الهيمنة التامة على السلطة ظهرت إرهاصات الخلاف والاختلاف، حيث إن (الشيخ) أبدى رغبة جامحة في السيطرة التامة، فقام بتحجيم الحركة الإسلامية وتكتيفها ورميها في البحر، وذلك بحل المرجعية ليصبح (الشيخ) هو الملك وحده وغير قابل للمراجعة أو المساءلة أو المحاسبة، ولم يكتفِ بذلك وإنما أبدى رغبة جامحة في السيطرة على الذراع العسكري للتنظيم، وأخذ يروج لمفهوم أن هذا الذراع قد تجاوز الدور المرسوم له وهو القيام بالانقلاب فقط وبعدها يعود القائد العسكري إلى ثكنته العسكرية ومن ثم يروج لمقولته الشهيرة (انتهى دور الإمام الثائر وحان دور الإمام العالم)، أي أنه وببساطة شديدة جداً انتهى دور البشير وحان وثوب (الشيخ) إلى أعلى والجلوس على كرسي السلطة الوثير. في ظل تغييب (الشيخ) لمركز عصب الحركة الإسلامية وتغييب الشورى والمرجعية، فضلاً عن الإقصاء المتواتر للعديد من رموز الحركة الإسلامية، قد حز ذلك في نفوس الكثير من العقد الفريد للحركة وأدى إلى زهد أكثرهم والبعد عن الحركة وترك ذلك الباب مفتوحاً أمام المتسلقين والانتهازيين والنفعيين الذين كانوا أول من بذروا بذرة الفساد في البلاد، وتبعاً لذلك ظهرت المحسوبية والجهوية والصراعات الصغيرة هنا وهناك، وانتقلت تلك الصراعات من مرحلة التقليدية الموسمية إلى مرحلة أفدح، أي أنها تصاعدت إلى صراع سياسي مسلح وتوسعت ساحاته ومطلوباته وتعددت الفصائل وتعددت زعاماتها في الداخل والخارج، ليس هذا فحسب، وإنما أصبح السودان قبلة لرموز الإرهاب في الوطن العربي والإسلامي، بل أصبحت الخرطوم مقراً للمؤتمر الشعبي الإسلامي، وبالإضافة إلى كل ذلك فقد تأزمت العلاقة مع كافة دول الجوار، وتبعاً لذلك شعر تلاميذ (الشيخ) وحواريوه بخطورة الوضع في البلاد، وعليه فقد انتفض (الحيران الثوار) وقدموا (مذكرة العشرة) التي أدت إلى تصحيح المسار وإبعاد (الشيخ) من المسرح، وسارت الأمور إلى أفضل ما يكون، غير أنه وبعد ثلاثة عشر عاماً بدأت الأوضاع تتأزم من جديد بسبب الفساد الذي انتشر في البلاد، الأمر الذي دعا السيد رئيس الجمهورية المشير عمر حسن أحمد البشير إلى إصدار قرار جمهوري تم بموجبه تشكيل آلية لمحاربة الفساد وضع على رأسها الدكتور الطيب أبوقناية، ورغم ذلك خرجت من تحت طاولة المؤتمر الوطني المذكرة التصحيحية ولا أدري هل يقف الزمان عند هذه المذكرة التي حملت فيما بعد اسم (مذكرة الألف أخ)، أم أن الزمان متخم بظهور مذكرات أخر وقد تكون (مذكرة المليون) تعد في مقبل الزمن القادم زينتها وترتدي جهادية الثياب، ويهزها زهور الشباب خاصة وأن (عواجيز الفرح) لا زالوا يتقدمون الصفوف الأولى. عموماً إن خطر غمامة شتاء (مذكرة الألف أخ) آخذة في الانقشاع وإن مخرجات هذه المذكرة تجاوزت فوبيا الخوف من الانشقاق ولكن ربنا يستر. استعراضاً لأهم ما ورد في المذكرة التصحيحية من إيجابيات، نجدها قد أشارت إلى أن ما تم في عام (89) إنما هو بمثابة اجتهاد مبروك ترى المذكرة أنه حقق الخير الكثير، حيث قدمت كثيراً من القيادات والقواعد وما زالت نماذج طيبة في التجرد والتضحية والقدوة الحسنة والجدية والكفاءة، وكان هذا سبباً في صبر الشعب السوداني مع الثورة والوقوف مع برامجها بحماس وفي أحلك الظروف رغم العوز والفقر والحاجة، وربطت هذه المذكرة بالنهضة الاقتصادية الكبرى والتقدم في كافة المجالات، بالإضافة إلى المشروعات الضخمة غير المسبوقة وتأسيس بنية تحتية عززت ثقة المواطن في الدولة، كما أشادت المذكرة بدحر التمرد وكسره وإجباره على التفاوض، وجاء ذلك بعد أن تم تأهيل القدرات العسكرية وتأهيل القوات المسلحة بالأسلحة المتطورة، وثمنت المذكرة إيقاف حرب الجنوب بعد مفاوضات مضنية لسنوات طوال. بعد ذلك تناولت المذكرة الإخفاقات والسلبيات التي اعتورت مسيرة الإنقاذ، وأشارت إلى أكبر هذه الإخفاقات وهي المفاصلة والانشقاق الذي حدث عام 1999م، واعتقدت المذكرة أن هذا الانشقاق كان وصمة على جبين المشروع وما تبعه من أحداث وملاحقات وملاسنات أذهبت بريق ما تم من جهود. كما أشارت المذكرة إلى الأخطاء التي ارتكبت من الجماعة والأفراد، والتي كان من أبرزها التعامل بروح الوصاية والإقصاء وعدم استصحاب الآخر خاصة في بواكير الإنقاذ، وأشارت المذكرة إلى العقلية الأمنية التي حرصت عليها الإنقاذ لتأمين الأوضاع، وقد تنامت هذه العقلية مما صور للناس كأنما الدولة بلا فكرة أو مشروع إنساني حضاري تقدمه للوطن، وانتقدت المذكرة التناقض الذي لازم خطاب الإنقاذ الذي بدأ بشمولية قابضة وانتهى بحريات وأحزاب وتعددية، بالإضافة إلى الموقف المالي والاقتصادي الذي بدأ بمنع تداول العملة وانتهى بتحرير اقتصادي كامل جاء وكأنما الدولة بلا برنامج اقتصادي، وكأنما برنامجها الذي يرتكز على مسألة رزق اليوم باليوم، وأخذت الإنقاذ تستجيب للضغوط حتى تبقى في السلطة إلى جانب أن بعض رموز الإنقاذ قد ركن إلى الدنيا وأصاب منها وسقط في امتحان السلطة والمال وأصبحوا من المفتونين، وأشارت المذكرة إلى موضوع الساعة وهو الفساد، وكيف أن الإنقاذ لم تتعامل معه بحسم، وأشارت إلى الإفرازات التي ظهرت نتيجة للتحرير الاقتصادي، وأشارت المذكرة إلى ثورة التعليم العالي التي أفرزت مشكلات كثيرة منها البطالة، وذكرت أن الإنقاذ فشلت في محاربة بعض الظواهر الموروثة مثل المحسوبية والرشوة، كما أشارت إلى ظهور النعرات القبلية والجهوية، الأمر الذي أدى إلى الأخطاء التي ارتكبت في قضية دارفور. ما يمكن أن يقال عن هذه المذكرة إنها جاءت رصينة وعلمية، حيث أشارت إلى الإيجابيات ثم الإخفاقات ثم الرؤية المستقبيلة التي منعني ضيق المساحة من ذكرها، ومن ثم ولكي تكمل الإنقاذ مسيرتها وهي تمضي في طريقها لتنفيذ برنامج الجمهورية الثانية، عليها أن تنتبه إلى ما ورد في المذكرة وتعمل على إزالة الإخفاقات والنظر إلى الحاضر والمستقبل بالرؤية التي تناولتها المذكرة ومن ثم آمل في أن يكون الحاضر أجمل والغد أفضل.