ذات ليلة صيفية موحية بكل ما هو جميل من ليالي يوليو الدافئة الأنفاس، وتحديداً ليلة التاسع عشر من يوليو 1932م، وفي بيت متواضع من بيوت بلدة «صواردة» بمنطقة وادي حلفا، جنوب مدينة عبرى، وبينما كان العم عثمان حسن صالح وردي منهمكاً في تدخين تبغ «القمشة»- وهو تبغ محلي متواضع الجودة- دوت صرخة عالية أطلقتها السيدة « بتول بدري» زوجة العم عثمان، وكانت هذه الصرخة آخر صرخات الطلق الذي واتا السيدة « بتول» وبعدها -وبدقيقة واحدة- سمع العم عثمان صرخة أخرى خافتة هي كانت صرخة الميلاد لمولوده الجديد، وبعدها انطلقت زغاريد الفرح لهذا الوافد الجديد...إنه «محمد» عثمان حسن صالح وردى، الذي اشتهر بعد ذلك باسم الفنان «محمد وردي».. توفي والده بعد عام واحد من ميلاده، ولحقت به والدته السيدة «بتول بدرى» عندما بلغ التاسعة من عمره، فنشأ يتيماً وتربي في كنف عمه، وربما كان اليتم المبكر قد صاغ رنة الحزن التي صحبته طوال سنوات عمره الفني. تلقي فقيدنا الراحل الفنان محمد وردي تعليمه الأولي بمنطقته، ثم انتقل الى مدينة شندي، حيث درس بمعهد تأهيل المعلمين، وبعد اكماله فترة الدراسة في المعهد قفل راجعاً الى مدينة حلفا، و عمل كمعلم في المدارس الوسطي، ثم معلماً في المدارس الثانوية. في عام 1953م جاء الى العاصمة الخرطوم لحضور مؤتمر تعليمي انعقد آنذاك، و كان ممثلاً لمعلمي شمال السودان، وبهذه الزيارة الأولى للعاصمة كانت قد راقت في عينه الخرطوم بأضوائها وليلها الجميل، ففكر في أن يسعى للإقامة الدائمة بالخرطوم، ومن ثم سعى لوزارة المعارف لنقله الى الخرطوم، ولكن وفي أول الأمر تعذر عليه ذلك، و كان ذلك أثناء تلمسه خطواته الأولى في مجال الغناء والموسيقى، ومن ثم تهيأت له فرصة عظيمة، حينما استمع لغنائه السيد محمد نورالدين ذاك الحلفاوى السياسي الضليع، وكان وزيراً للحكومات المحلية في أول حكومة وطنية في البلاد، ومن ثم سعى فناننا الراحل الى السيد محمد نور الدين ليساعده في أمر نقله من حلفا الى الخرطوم، ولما جاء بملفه الى الخرطوم ليعمل في مدارسها اصطدم برفض ضابط بلدية الخرطوم نقله بحجة أنه ليست هناك خانة شاغرة لاستيعابه «وردي» غير أن السيد محمد نور الدين بعد أن علم بذلك- وبما أنه وزيرللحكومات المحلية- أمر بفتح مدرسة جديدة بأحد أحياء الخرطوم لاستيعاب المعلم «محمد وردي» وقد تم ذلك، وعمل المعلم «محمد وردي» في هذه المدرسة الجديدة، التي أسست فيها السنة الأولى، و قد جاء ذلك تقديراً للموهبة المبكرة للمعلم محمد وردي... هذه الموهبة التي فطن لها السيد محمد نور الدين. في عام 1957م، تقدم الى الاذاعة «هنا أم درمان» لاجازة صوته، وبالفعل تمت إجازة صوته، و قام بتسجيل عدد من الأغنيات، وتحقق حلمه الكبير، في أن يصبح فناناً مع من سبقوه من الفنانين الكبار، وكان التحدى أمامه كبيراً، ليصبح واحداً بين هؤلاء الكبار، وهم عبد العزيز محمد داؤود- وحسن عطية- وأحمد المصطفي- وعثمان حسين- وعبد الحميد يوسف- وابراهيم الكاشف- وابراهيم عوض- وغيرهم من كبار الفنانين آنذاك، وخلال عامه الأول فقط في الإذاعة استطاع تسجيل «17» أغنية.. الأمر الذي حدا بمدير الإذاعة آنذاك الى تشكيل لجنة خاصة من كبار الفنانين، وشعراء الأغنية، وكان من ضمنهم الفنان ابراهيم الكاشف، وعثمان حسين، وأحمد المصطفي، وبعد الاستماع إليه رفعت اللجنة تقريرها لمدير الإذاعة، فصدر قرار بترقيته من الدرجة الرابعة الى الدرجة الاولى كمغن محترف، وفي البداية كان يتميز فناننا وردي بادخاله اللونية النوبية في الغناء، وكذلك أدخل الطمبور، وغنى وردى برطانة المحس، وغنى باللغة العربية، حيث غنى للعديد من الشعراء الكبار، وفي مقدمتهم الشاعر الغنائي صاوى عبد الكافي، حيث غنى له أغنية«أمير الحسن» ثم غني للشعراء الجيلي عبد المنعم، عمر الطيب الدوش، شاعر الأغنية الشهيرة «بناديها» ثم غنى لمبارك بشير، والفيتوري، واسحق الحلنقي.. حيث غنى له «يا أعز الناس»، ثم غني للشاعرأحمد الطاهر- وابراهيم الرشيد- في أغنية «سليم الذوق» وغنى لعبد الرحمن الريح- والسر دوليب- و أبو آمنة حامد- ثم جاءت المرحلة المهمة في مشوار حياته الفنية، وهي المرحلة التي سميتها «المرحلة الاسماعيلية» وأعني بذلك ارتباطه بالشاعر الكبير اسماعيل حسن.. حيث غنى له «الحنين يا فؤادى» وتبعتها بعد ذلك مجموعة من الأغنيات الخالدات، منها نور العين، وحبيناك من قلوبنا.. الى جانب رائعته «المستحيل» ثم غني «الطير المهاجر» للشاعر صلاح أحمد ابراهيم- وغني لمحمد المكي ابراهيم- وكجراي- وغنى «أرحل» للتيجاني سعيد.. ثم جاءت مرحلة الأغاني الوطنية، فغنى للشاعر الكبير محجوب شريف ومنها أغنية «يا شعباً لهبك ثوريتك» و بعدها غنى له أغنية «مساجينك» وبهذا النتاج الباهر طبقت شهرة فناننا الراحل محمد وردي كل الآفاق، حتى تجاوز الجغرافيا السودانية، وأصبح مشهوراً في كافة الدول الافريقية، حتى أنه نال لقب فنان افريقيا الأول، كما منح الدكتوراة الفخرية من جامعة الخرطوم عام «2005م» تقديراً لمسيرته الفنية الطويلة، وباعتباره أسطورة فنية سودانية خالدة، وموسوعة موسيقية عظيمة، ولعل عظمة فناننا الراحل محمد وردي لها مميزاتها، الأمر الذي دعا فخامة المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية أن يؤم المصلين في صلاة جنازة فقيدالفن والعلم والوطن الفنان الكبير محمد وردي، وأن يشارك سيادته في انزال الجثمان الطاهر في مثواه الأخير، وكان الى جواره السيد وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين. كان فقيدنا الراحل قد أسلم روحه الى بارئها في الساعة العاشرة و النصف من مساء السبت 18/2/2012م بمستشفي فضيل نتيجة لهبوط مفاجئ في الدورة الدموية، وكان اصلاً يعاني من «الفشل الكلوي» ورغم أنه كان قد أجريت له جراحة نقل كلي إلا أنه تعرض الى هذه النهاية الكارثية تماماً بنفس الأسباب التي أدت الى رحيل الفنان مصطفي سيد احمد رحمه الله. بقي القول أن فقيد الفن والوطن الفنان محمد وردي، ظل مصادماً للأنظمة العسكرية، والأنظمة الشمولية، الى آخر لحظة في عمره، فقد اختلف مع نظام عبود، واختلف مع نظام نميري، وهو حتى أيامه الأخيرة لم يكن راضياً تماماً عن إدارة الإنقاذ للبلاد، وكان دوماً يقف بقوة وشموخ مع الوطن، ولا شيء غير الوطن. وبقي الحزن يسكن في قلوبنا، وبكى النيل، وشهق الخليل لرحيل النغم الوردي الأصيل.