أقباط المهجر: لقد كتبت كتاب «أقباط السودان» الجزء الأول، والذي سوف يظهر في سماوات الكتب في عيد القيامة المجيد لعامنا هذا 2012م، وقد تأخر عن صدوره ثلاث سنوات، كان ينبغي أن يصدر في عام 2009م، إحتفالاً بمرور مائة عام على إفتتاح كاتدرائية السيدة العذراء بالخرطوم، التي تطل مناراتها بشموخ وسموق على نهر النيل المبارك في شارع النيل، والتي من سماحة المسيحيين وأيضاً سماحة المسلمين، أشرف على بنائها مهندس البطريركية حمزة علي حمزة، وتأملوا هذا التعايش مهندس مسلم بالبطريركية رغم أن هناك مهندسين كثر مسيحيون، والبطريرك يعتز به، ويرسله ليشرف على بناء كاتدرائية الخرطوم التي هي إنجاز كبير ثم في عهد البابا كيرلس الخامس، ولم يجد المهندس حمزة حرجاً في أن يشرف على بناء كنيسة لأنه فاهم للدين وللقرآن الكريم الذي ساوى مساواة كاملة بين صومعة الراهب، وكنيس اليهود، وبيْعة النصاري وجامع المسلمين، ووضعهم في آية واحدة، تؤكد أن الله هو ضابط الكل الذي يزن الأمور بميزان حق وعدل، والذي يدفع الناس حتي لا يؤذي أي أحد منهم كنيسة ولا جامع، ولا يهدم صومعة ولا كنيس: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ »الحج40. وفي كتابي أقباط السودان ذكرت أن هذا هو الجزء الأول، وأن هناك مواضيع عديدة لم تذكر في الكتاب وقد أجلتها للجزء الثاني حتي لا يتأخر الأول أكثر من هذا، وأهيب بأقباط السودان في المهجر أن يكتبوا إلينا عن هجراتهم، وعن تعايشهم هناك، وبداياتهم، وكفاحاتهم، ورؤياهم عن المستقبل. وأمامي هنا حديث عن تعايش المسلمين والمسيحيين من أبناء السودان في كندا، وذلك في مقال بدر الدين حسن علي، والذي ذهب إلى كندا، وتعاشر مع أحبابه الأقباط الذين يعرفهم من هنا، والذين أطلقوا عليه اسم عبد المسيح، لأنه متواجد دوماً معهم في كنائسهم وأعيادهم ومنازلهم، وإلى مقاله: قبل أيام اطلعت على مقال للأب الدكتور القمص فيلوثاوس فرج حول أقباط السودان ورسالتهم الإجتماعية واهتمامهم بالزراعة والصناعة، ودورهم الكبير في إقتصاد السودان، وبعدهم عن السياسة، وتماسكهم معاً كقبيلة سودانية ذات جذور تمتد إلى أزمنة قديمة، ليس ذلك فقط فأقباط السودان علمونا الكثير وفي كل المجالات وخيرهم علينا لا يمكن تجاوزه بأية حال. بصراحة أعجبني المقال خاصة وإنه كتبه بنفس هاديء جداً يليق برجل مثل القمص فرج على الرغم من الظروف الصعبة التي ظل يعيشها الأقباط في مصر، ومؤخراً في السودان منذ مجيء ما يسمى بثورة الإنقاذ عام 1989، وأعجبني أكثر نشره لجهود الدكتور حليم وديع جيد الذي وصفه بأنه الزعيم بن الزعيم بن الزعيم، وهذا صحيح تماماً، وتحدث عن جده وديع جيد، كما تحدث عن والده الدكتور وديع جيد، الذي كما كان يحكي لي والدي «رحمه الله» أنه معلم بارز في أم درمان وحكى لي الكثير عنه، إلى أن تعرفت شخصياً على الأستاذ الدكتور القامة حليم وديع جيد رجل بمعنى الكلمة، ويصدق عليه القول هذا الشبل من ذاك الأسد، ولا أريد أن أزيد. ولأن لي ذكريات هنا في تورنتو مع مجموعة كبيرة من الأقباط السودانيين، وهي ذكريات ما زلت أعيشها معهم،أحببت أن أستعرض أسماءهم في هذا المقال لعل وعسى أن يضاف إلى المكتبة القبطية لكي ننتقل من أدب الشفاهية إلى التوثيق . شاءت الأقدار أن أهاجر إلى كندا وأن أصادق معظم الأقباط السودانيين فيها، وقد حدث أننا كنا نلعب «ويست» وأنا المسلم الوحيد بينهم فإذا بمجدي زميلي في اللعب يقول لي «ما تلعب يا عبدالمسيح» وهكذا إنتشر الإسم. ومع أصدقائي الجدد تذكرت أصدقائي القدامى، وشرعنا نتجاذب أطراف الحديث عن كل قضايا السودان بصراحة ووضوح شديدين «وبدون زعل كما يقولون»، ووجدت فيهم نفس تلك الصفات التي ميزتهم، مسيحي لكن سوداني جد جد وأخو إخوان، شجاع ونبيل وكريم ويحب الوطن حتى «النخاع» وعلى إستعداد تام للتضحية بكل شيء من أجل السودان، وشرعت في تجربة عملية للتأكد من ذلك فكانت الحصيلة الحكاوي التالية: مدحت موريس شنودة شاب يصغرني كثيراً، ولكنه شاب طموح وبلغة كندا very hard worker بنى نفسه عبر مخاض من المعاناة والجلد والثبات والإعتماد على الذات، ساعده في ذلك ذكاؤه الشديد، ولكنه لم يحقق كل هذا إلا عبر سودانيته الخالصة التي رضعها منذ نعومة أظافره، ولم يزده رحيل والده إلا المزيد من التصميم لتحقيق طموحاته، هاجر من كندا إلى استراليا، وما زلت أهاتفه بين الحين والآخر يعيش حياة بسيطة وهانئه مع زوجته وأبنائه، عشقه للسودان يكاد يقتله، وما زلت في كل مرة أهاتفه نغني معايا حمام الوادي يا راحل» هكذا «كان هنا في تورنتو يعطر سماءنا بغنائه الجميل، رحل عنا كالنسمة ولم يترك غير سودانيته الأصيلة، مدحت على الرغم من أنه كما قال الفنان محمد الأمين «صارم القسمات» إلا أنه بشوش وضحوك يذكرك بأهلنا الكبار الذين يجمعون بين الجد والهزل .