وأقصد بالمعارضة الأحزاب التي تدخل في إطار «قوى الاجماع الوطني» وتعمل فيما تعلنه على إسقاط النظام، عن طريق إثارة الشارع ضده، وقد فشلت تماماً في هذا الهدف، مع تماسك الجبهة الداخلية حوله، وذلك في تفهم العقل الجمعي الشعبي للمبررات الموضوعية المحيطة بالضائقة الاقتصادية الموقوتة التي تمر بها البلاد، وهذا العقل الجماعي المنفتح على العالم يعي أن بلاداً غربية سبقتنا إلى التصنيع والتحديث تدخل في إجراءات تقشفية حادة، منها خفض الأجور والاستغناء عن نسبة من الوظائف، حيث تتفاقم أزمة البطالة وليست دول عديدة في المنطقة بمنأى عن هذه الضوائق، ومع ذلك تتخذ السلطة في السودان إجراءات استثنائية حادة لإعادة التوازن للاقتصاد، وتقتحم معضلة تشغيل الخريجين بالاستيعاب في الحكومة أو في العمل الحر، إلى غيرها من مشروعات خفض تكلفة المعيشة كالإسكان الشعبي، والتأمين الصحي، وفي الوقت نفسه تقوم الحكومة بتجديد قانون الاستثمار ليكون أكثر جذباً للمستثمرين من الخارج في المشروعات الاستراتيجية ذات الأولوية، كما تمضي في استكمال البنيات التحتية الضرورية لأية نهضة اقتصادية، وهي تفتح أبواب الاستكشاف للمصادر التعدينية والطاقوية. وأقصد بالتفريق بين نظام الدولة، التمييز بين السلطة الحاكمةن وهي الآن متعددة القاعدة، يشارك فيها حزبا الاستقلال، على تفاوت بينهما في درجات هذه المشاركة «وبين الدولة بمهفومها الحقوقي والسياسي الشامل الذي يجمع بين الأرض التراب الوطني والسكان..«المجتمع بكل تكويناته»والسلطة الحاكمة.. فعلى المعارضة ألا تذهب في معارضتها للسلطة الحاكمة إلى المساس بمصالح الدولة العليا، وهي مصالح المجتمع، ولا إلى ما يتهدد ترابه الوطني، أو أمنه القومي. وهو ما يضع هذه المعارضة في محك المصداقية إزاء تداعي الأوضاع الناجمة من توتر العلاقات بين السودان ودولة الجنوب، وذلك من خلال التساؤلات الموضوعية القادمة: أولاً: تجربة المعارضة مع الحركة الشعبية: ظلت الحركة الشعبية مسكونة بحلم «السودان الجديد» قبل اتفاقية السلام وبعدها، وقبل الاستفتاء وقيام دولتها، وبعده- حتى الآن- وقد اتخذت الحركة الشعبية الفترة الانتقالية كمناخ ملائم لاقامة مشروع «السودان الجديد» فماذا كانت تجربة المعارضة الشمالية مع الحركة الشعبية في هذه المراحل؟: /1 دخلت الحركة الشعبية في اتفاقية السلام، دون مشاركة من حلفائها القدامى في المعارضة الشمالية، أو اشتراط منها بمشاركتهم. /2 كانت الحركة الشعبية تستغل هذه المعارضة ككروت ضغط على الحكومة في مفاوضات الشراكة المتقلبة بين تعنت الحركة وحرص الحكومة على تنفيذ الاتفاقية، وكانت المفاوضات تفضي للحلول الوسط، لتمضي، الشراكة دون أن أن تلتفت الحركة للمعارضة الشمالية. /3 عبأت الحركة الشعبية سكان الجنوب لصالح خيار الانفصال، بالمال السياسي الخارجي، على غير إرادة المعارضة الشمالية، التي كانت ستظل بالحركة الشعبية كحليف سياسي- تحالف جوبا- لاسقاط النظام.. لقد كانت الحركة الشعبية تستغل المعارضة في مخططها التكتيكي لاسقاط النظام، كمرحلة نحو هدفها الاستراتيجي، وهو إقامة «السودان الجديد» الذي تسيطر فيه على قيادة السلطة بمشاركة هامشية للمعارضة الشمالية، فهل ترضى هذه المعارضة بهذا المصير؟. ثانياً:مخطط إسقاط النظام بالزحف من الأطراف على المركز: لما فشلت الحركة الشعبية في تحقيق مشروع «السودان الجديد» في الفترة الانتقالية اتجهت إلى تحريكه بعد قيام دولتها عن طريق فرعيها السابقين، في قطاع الشمال بجنوب كردفان، والنيل الأزرق، بعد أن جمعتها مع حركات دارفور الرافضة لسلام الدوحة في «الجبهة الثورية» فأخذت في إيوائها، وتسليحها، وتدريبها، حتى تقوم بالوكالة بالزحف من الأطراف للمركز، بغية اسقاط النظام، والعدوان على بحيرة الأبيض الأخير هو الدليل المادي على هذا المخطط الذي يحمل بعداً خارجياً، بتجاوز حكومة الجنوب.. وقد كان حرياً بالمعارضة أن تدين هذا العدوان، الذي ثبت أنه انطلق من الجنوب إلى عمق التراب السوداني، وبالضرورة من خلال تخطيط «جنوبي» وتنفيذ قيادي جنوبي، وهذا محك لتفرق المعارضة بين معارضتها للنظام، وتفريطها في السيادة القومية على مجمل التراب السوداني.. فأي الموقفين ستختار؟. ثالثاً: الولاياتالمتحدة وإسرائيل وراء مخطط العدوان: لا نطلق في هذا التحليل من عقدة المؤامرة بقدر ما أقدم الشواهد والأدلة، فاسرائيل القريبة من المنطقة تضع في استراتيجيتها إضعاف أي نظام في المنطقة، كالسودان، يملك الإرادة والإمكانيات، وهو يتطلع للنهوض إلى مصاف الدول الصاعدة التي تتطور من دائرة التخلف إلى آفاق التقدم.. أما الولاياتالمتحدة وهي في موسم الانتخابات الرئاسية، فهي تسعى لكسب ود اللوبيات الصهيونية المعادية للسودان، سواء الحزب الديمقراطي الحاكم أو الحزب الجمهوري المعارض.. لذلك لم يكن اعتباطاً أن تستبق وزير الخارجية الأمريكية أي شكوى من السودان لمجلس الأمن ضد دولة الجنوب، بتصريحات عدائية تتهم السودان بالعمل على تقويض حكومة الجنوب، فأيهما يسعى لتقويض الآخر: السودان أم دولة الجنوب والقوى التي تقف وراءها ؟ وعلى نفس المنوال ترفض وزارة الخارجية الأمريكية إعفاء الديون السودانية في استباق مقصود لمؤتمر انقرا الاقتصادي المزمع لصالح السودان.. أليس من حقنا أن نتهم الإدارة الأمريكية بأنها وراء قرار الجنوب بوقف ضخ بترولها العابر للسودان، ربما بشراء خامه في آباره لسنوات حتى يكمل انجاز خطه البديل عبر ليبيا، مقابل بيع السلاح للحركة الشعبية وجناحيها الناشطين في الشمال من استحقاقاتها من البترول، مع تضخيم حرب وشيكة مع الشمال، فما هو موقف المعارضة من سلطة تدفع عن التراب والسيادة في وجه دولة معادية وراءها قوى اقليمية ودولية طامعة في بسط سيطرتها على كلٍ من الشمال والجنوب؟!. والله المستعان