وما زلت في حضرة وردي.. مازلت أتكئ على شاهد.. يشهد بأن الذي يضمه هذا اللحد من الذين سكبوا الروح.. وقدموا كلما هو عزيز ونادر الى هذا الوطن، الذي هام به وردي حباً وصبابة.. وما زلت أنظر في إعجاب وإكبار وفخر وفخار في كل وجوه وردي.. تلك الزاخرة بكل بديع، الحافلة بكل عظيم.. كل وجه يفوق الآخر نضارة وجسارة وبسالة. كل أبناء وطني يعرفون في يقين وجه وردي، ذاك الذي أغرقه في بحور غناء العاطفة، يحفظون كل كلمة.. كل خفقة، كل نغمة تحكي عن الشوق والهوى.. عن الحب وشاسع الأماني، عن الفراق والهجر والسهد والدموع، ومسارات النجم في الظلم.. يعرفون ونعرف وكل العالم يعرف أن وردي غنى لكل من سعت به قدم.. غنى للرابحين عشقهم.. غنى للخاسرين عشقهم.. غنى للحالمين والمحتشدة صدورهم بالأمل.. غنى للذين يستمطرون السماء أن تتنزل سحب وسحائب النجاح على قصص حبهم الطرية والندية.. غنى حتى للذين تأكل نيران الغيرة قلوبهم وتشعل اللهب في تجاويف صدورهم.. نعم هذا وجه من وجوه وردي.. واليوم نتحدث عن الوجه الآخر الذي دفع فيه وردي أثماناً باهظة من عمره، وهو يجابه فراق الوطن قسراً.. ويتلظى ويشقى بغرف المنافي والمهاجر الرطبة الخانقة.. يدفع الثمن سجناً وعسفاً وتشريداً.. اختار وردي هذا الطريق، هو ليس طريقاً أنه موقف.. موقف المواطن الفنان من وطنه وشعبه وقضايا أمته.. هذا الموقف له ثمن فادح، كان وردي على استعداد لدفعه وقد دفعه بالفعل.. الذي ينكر ذلك ينكر ضوء الشمس من رمدٍ، والذي يأخذه لحظة من حسك ليس غير مخاتل ماكر كاذب أشر.. وبالمناسبة حتى نميري وعندما كان على رأس السلطة أقر بذلك، والقصة الحقيقية تقول إن وردي كان حينها داخل أسوار سجون مايو بعد 19 يوليو.. تطاول أمد احتجازه.. سعى أحدهم- وهو من قلب سلطة مايو- الى نميري للسماح لوردي بادخال آلة «العود» في السجن.. هنا استشاط نميري غضباً، هاج وماج.. ثم قال «نحن وردي ده قبضناه سايق دبابة ما قبضناه عشان العود ده».. والآن أستاذي السفير البديع البهي «ود المكي» مرة أخرى دعني أستنجد بك فأنت بليغ جداً، وأنا غشيم جداً فأنت الكلمات طوع بنانك وتحت سيطرة قلمك المطيع، وأنا الكلمات تهرب مني ذاك الهروب العظيم.. تتمرد علي كما تمرد «مارلون براندو» على سطح السفينة «بونتي» دعني استعين بك وأنقل حرفياً حروفك عن الفرعون تلك التي اطربتني وابهجتني و«قعدت في مواعينو» كل من تطاول على أعظم أهرام السودان وردي.. وكلماتك سعادة السفير هي:«ولا مشاجة في كون محمد وردي مناضلاً سودانياً عظيماً تغرب عن وطنه الجميل رفضاً للذل والخنوع، وضرب في ذلك أرقاماً قياسية، وتحمل آلاماً عظيمة من عوز ومرض وفقد عائلي، إضافة الى عبء العمر الثقيل، وها هو في الوطن بين الأهل والأحفاد والأصدقاء والمحبين، وقد قام بواجبه على أكمل وجه، بل على وجه الكمال، وعلينا نحن القاعدين والمخلفين أن نضطلع ببعض ما قام به في نضاله الطويل». صدقت يا «مكي» ويكفي وردي شرفاً وفخراً.. إنه ما طافت في الفضاء أو في «الونسة»، أو في ذاكرة الناس، أو أي فرد من هذه الأمة العظيمة.. ما طافت أو حضرت ذكرى أكتوبر.. إلا وكان وردي حاضراً.. بل ثاني أكتوبر في تلاحم لا فكاك منه.. ماهلت ذكرى أكتوبر إلا وانفجرت شلالات البهاء، وازدحمت ساحات الفضاء بأناشيده التي تجلجل يردد صداها وطن بأكمله.. وكذا الحال، إنه ما تذكر أحد أبريل إلا وكان وردي حاضراً وكأنه «يتمم » أيام ذات الشهر- شهر ابريل- يردد الصبي والفتاة، الشيخ والمرأة، الطفل والصبية.. يا شعباً لهبك ثوريتك.. انت تلقى مرادك والفي نيتك.. وختاماً.. هل كان وردي وحده حزباً؟.. نعم كان حزباً، وإذا لم يكن برنامج وردي وهو ينشد.. مكان السجن مستشفى.. مكان المنفى كلية.. مكان الأسرى وردية.. مكان الحسرة أغنية.. مكان الطلقة عصفورة تحلق حول نافورة تمازح شفع الروضة.. حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي.. وطن شامخ وطن عاتي.. وطن خيِّر ديمقراطي.. وهل هناك برنامج أكثر إشراقاً واخضراراً من هذا؟.. ثم لك السلام يا وردي وأنت في العلياء.. وألهمنا الله فيك الصبر والسلوان.