ما زلت أذكر جيداً سطوري التي كتبتها من قبل في غير هذا المكان، وجهتها فيها لوزير الثقافة الأستاذ السمؤال خلف الله، الذي استطاع خلال وجوده في ردهات الوزارة ان يحيط كثيراً من أهل الابداع بالرعاية والعناية وازالة الغبن ورد الجميل، رجوته وقتها واتبعت رجائي بعشم كبير دعوته خلاله أن يصوب وجهه ناحية مدينة الخرطوم بحري لزيادة الأديب الأريب والباحث والكاتب والموثق والفنان الشامل عبدالرحمن بلاص، وللأسف الشديد يبدو أن حروفنا وكلماتنا قد تاهت خطاها وتلاشى صداها في أودية الصمت العميقة دون ان تحرك سطورها ساكن المسئولين فربما والعلم عند الله وحده لم يطلع عليها الوزير بحكم كثرة المشغوليات أو لم يسع طاقم مكتبه لوضعها على منضدته الرئيسية . حمل بلاص في بواكير الخمسينات تراث منطقته وإيقاعاتها المختلفة ونفذ بها من خلال بوابة الابداع إذاعة أمدرمان لتصل اغنياته للقاصي والداني في ارجاء الوطني الكبير، محققاً بذلك رغبته واهتمامه لحفظ التراث الذي استهواه وملك عليه ذاته وكيانه، فلم يجد من ذلك فكاكاً فراح في رحلاته البحثية مع رفيقه «المظلوم الآخر» المرحوم محجوب كرار بحثاً وتنقيباً وجمعاً لالوان التراث وكنوز الثقافة فكان من ثمرات ذلك ان رفد بلاص المكتبة المقروءة بأكثر من عشر مؤلفات في الشأن الثقافي فيها «المرتبة» «المخلاية» بماذج بشرية والابونية «اغنيات بلاص» وغيرها طبع فيها حوالي عشر الاف نسخة، الكبير فقد عجز الرجل تماماً عن توزيعها لتكون بين أيدي القراء وعشاق الثقافة فمازال بلاص يشتكي لطوب الارض فشله في تسويقها وبيعها حتى يستطيع ان يسقط عن عنقه وكاهله مديونيات المطابع واستحقاقات الطباعة خاصة وهو يعيش في بلد أظهر اهتمامه بالثقافة وجعل لها وزارتان. اتصفت حياة بلاص كلها بعلاقته الوثيقة وارتباطه الشديد بالكتابة والغناء ومجالات البحث الواسعة التي كلفته وزميله الراحل محجوب كرار الوقت والجهد والمال فكان بلاص نجماً لامعاً في سماء الكتابة له قلم يرشق وأسلوب سلسل وبديع والتصق في كتاباته بقضايا الناس يحكي عنها يشرح أسبابها ثم يتعهدها بعد عرضها بالمتابعة وملاحقة المسؤولية حتى يجد بجهد قلمه الحلول الناجعة لاصحاب المشكلات ليدرأ عنهم تداعيات الفاقة ومالات العوز وشدة الحاجة، عمل بلاص في بلاط الصحافة إلى جوار الفطاحلة من أرباب الاقلام والمعروفة، عندما جمعته رحلة الكتابة المضنية برموز من الشوامخ الذين استقرت أسماؤهم في أركان الذاكرة، محمد الفيتوري، الطيب صالح، حسان سعد الدين عبدالله رجب، محمد الخويج، ميرغني البكري، نعمان على الله، حسن أحمد التوم وصلاح شعيب وغيرهم من زمرة الكتاب في مجلة الاذاعة، والشباب والرياضة الشارع السياسي، ظلال، والكثير من صحف ومحلات ذاك الزمان ولعل الغالبية من الناس لا يدركون ان عبقرية بلاص قادته في عام 1959م مع زميليه عبدالرحمن حمزة ومحمد إبراهيم حتيكابي لنشر واصدار مجلة «كل الفنون» كأول محله فنية متخصصة استطاعت وقتها ان تسد «الفرقة» وتملأ الساحة إلى أن لقيت حتفها بعد سنوات، عندما عجز ناشروها عن سداد تكاليفها بعد أن تراكمت على ظهورهم الديون. أكثر من ستة عقود من الزمان تمثل في مجملها عمر تجربة عبدالرحمن بلاص في سوح الابداع وميادين العطاء فمنذ تلك الفترة البعيدة والي يوم الناس هذا مازال الرجل الفنان عبدالرحمن بلاص، يجلس على منصات التخطي والنسيان، فقد تجاوزته قوافل التكريم وتطويق الاعناق دون النظر ولو بالتفاته واحدة لمطالعة صحائفه الممتلئة بصنوف الانجاز الواضح. فقد نادينا مراراً من قبل، بضرورة الالتفات اليه والعمل على تكريمه، يشهد على ذلك استاذنا الدكتور هاشم الجاز، الذي شاركنا نفس الهم وسعى معنا الى تحقيقه فقد بح صوتنا، وجف مدادنا، وتلاشت صيحاتنا في جنبات وادٍ بعيد لم يحرك فيه احد ساكناً، فهانذا، اعيد الكرة من جديد، يحدوني امل كبير، بالاطلالة خلال منبر «اخر لحظة» لنسمع صوتنا للآخرين ليتنادوا من كل فج عميق لاحاطة عنق بلاص بقلائد حسن الصنيع، املي وعشمي كله ان تبلغ كلماتي مقام راعي ونصير المبدعين سعادة النائب الاول الاستاذ علي عثمان محمد طه، للتوجيه ورعاية تكريم العملاق بلاص، فهو مازال يعيش بيننا، ونتمنى ان يأتي يوم شكره وتقديره وهو حي يرزق، فاخشى ان نلتفت يوماً فلا نجده بيننا. افعلها سعادة النائب الاول، فقد عرفناك قريباً من المبدعين، ادفع بتكريم بلاص خطوات الى الامام. فانت من الذين يعرفون قدره وتاريخه وتأثيره في محيط الثقافة والفنون ،وعشمانين تجينا الاستجابة في الحين، ما دام الرسالة وصلت النائب نصير المبدعين.