وقفت ليلى في المحطة مثل كل يوم في انتظار بص الوالي.. غطت عيونها الواسعة الجميلة بنظارة سوداء تقيها أشعة شمس الخرطوم اللاهبة.. حملت في يدها نسخة من جريدة إنجليزية.. اكتشفت أن المركبة الفارهة تمكنها من الوصول إلى مكان عملها دون أن يتحرش بها أحد المتصابين.. كانت تكره الحافلة الصغيرة التي تختلط فيها أنفاس البشر.. لديها حساسية عالية من الأنفاس الكريهة.. منذ يومين انتبهت إلى شاب سوداني يتابع خطواتها.. يقف في البقالة المواجهة لمحطة البص. فيصل أخيراً وجد بغيته في (بت) المحطة.. بات يستيقظ مبكراً على غير العادة.. هذا النشاط الزائد لفت نظر والدته حاجة سميرة.. ولد فيصل وفي فمه معلقة من ذهب.. والده الشاذلي بدأ حياته عامل (دريسة) في السكة حديد.. ذاق بؤس العيش وقهر الدين.. من عربة في مؤخرة القطر بدأ تجارته.. توسع الرزق.. دكان الجملة تحول إلى إمبراطورية.. حرصه على المال جعله شحيحاً.. خوفه جعله يتجه للعقار.. مملكة من البيوت والمتاجر تركها لابنه فيصل وثلاث من البنات.. بعد أن تم اقتسام الميراث بات عمل فيصل الذي درس الجامعة في بيروت أن يركب عربته الفارهة ويجمع عائدات الإيجار.. كان في رحلة بحث دائم عن بت الحلال.. وصل الثلاثينيات ولم يجد فتاته الحلم. ليلى كانت في السنة قبل النهائية في كلية الطب بجامعة أسمرة.. ذات مساء جاء العسكر وأخذوا والدها المحامي.. لم يعد إلا جثة هامدة بعد سبع ليالٍ من الغياب.. خطيبها غادر أريتريا إلى معسكرات المعارضة.. بحثوا عنه ولم يجدوا له أثراً.. بعض الدلائل تشير إلى أنه مضى إلى السودان.. أخيراً قررت ليلى ووالدتها الرحيل إلى السودان.. أسست الفكرة على لم الشمل أولاً ثم الهجرة إلى أستراليا. ابتسمت ليلى إلى الشاب.. بدا لها أنه يشبه خطيبها حسين الغائب.. فيصل بادلها ذات الابتسامة.. أرادت أن تقطع الشارع ولكن بص الوالي وصل إلى المحطة.. نظرت من وراء زجاج النافذة ورأته يلوح لها بيده..لا شعورياً حاولت أن تفتح النافذة.. ارتبكت.. وقتها كان البص قد غادر المحطة.. عادت إلى النسخة الإنجليزية من صحيفة المواطن.. بدت مترددة.. تبدأ السطر ولا تكمله أبداً.. في هذه اللحظة ليست متأكدة إن كانت تحب حسين الأريتري أم شبيهه السوداني. عاد فيصل إلى عربته المرسيدس.. كان يخشى أن يختفي الحلم.. طارد البص حتى أدركه.. في محطة الفندق نزلت الحسناء.. لم تكن تدرك أن الشاب صاحب الابتسامة يتعقبها.. ظنت أن الموعد سيتجدد في صباح الغد.. مضت مباشرة إلى الفندق. من وراء زجاج العربة الوثيرة شاهد فيصل حبيبته تمضي إلى الفندق.. أحد الحراس حياها بابتسامة مؤدبة.. الباب الزجاجي الذي يفتح (أوتمتيك) احتواها بسرعة.. خاف أن تكون الجميلة على موعد مع عاشق.. بعد ارتباك وتردد دام دقائق قليلة قرر أن يمضي على إثرها.. لا يعرف اسمها.. الجمال لا يحتاج إلى عنوان.. سيسأل الحارس عن زهرة جميلة مضت إلى ردهات الفندق الأشهر. مضى إلى الداخل دون أن يسأل الحارس.. ذات الباب المرحب فتح أبوابه.. انعطف يميناً كأنه يتعقب عطرها.. على بعد خطوات كانت ليلى ترتدي زي نادلة.. تحمل بين يديها أكواباً من الليمون.. نظر إليها برهة.. تراجع إلى الوراء.. عندما أدركت أنه يهرب منها لأنها (جرسونة) وقعت أكواب الليمون من بين يديها. صرخت ليلى التي حولتها السياسة من طبيبة إلى نادلة.. خرج فيصل من ذات باب الدخول.