احتفلت في الأيام القريبة الماضية كل جهات الدنيا الأربع باليوم العالمي لحرية الصحافة، ومن بين هذه الجهات الوطن العربي الذي تنهض بينه وحرية الصحافة كل لوجستيات ما صنع الحداد. ضحكت يا سادتي من قاع قلبي المحزون وأنا أحاول الابتعاد قدر المستطاع عن القفز فوق الخطوط الحمراء التي تسد أمامي المدى.. تنطلق من صدري آهة مكتومة تعبر عن حزني ورفضي للقيد الذي استعصى كسره على الشابي فكسره بشعره. حرية الصحافة يا سادتي وهم جميل يدغدغ الأمنيات المستحيلة في زمن الإيدز والبيتزا ورجال مكافحة الشغب. أوه .. يا إلهي.. أي زمن هذا الذي أصبح فيه الرأي يتنفس بصعوبة شديدة تحت خيمة العناية المكثفة؟.. أي زمن هذا الذي أصبح فيه قادة الرأي في عالمنا العربي يحملون أكفانهم على أكفهم المهيضة وهم يتشردون كالأشباح في حدائق الشمس ليجمعوا لنا أزهار النهار؟.. أي زمن هذا الذي أصبحت فيه عصافير الرأي تطير على علو منخفض تفادياً لمجالات الرادارات.. بل أصبحت تطير وهي تحمل في حواصلها ما يعرف ب(الصندوق الأسود) الذي يحمله لها قادة الرأي ليسجل حيثيات جريمة إسقاطها. سمير قصير كان واحداً من تلك العصافير التي أسقطتها المضادات المنطلقة من منصات أعداء النهار والحرية والشمس والمطر ومن ثم ذهب سمير قصير وراء الشمس لأنه كان صديقاً لوجهها.. قتلوا سمير وقلبه يبتسم في وجه القمر. كان سمير يا سادتي كان جميلاً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويسجل اسمه في قائمة الخالدين في (بلاط الشهداء).. بلاط صاحبة الجلالة.. وقبله كانت ثلة من الشهداء قد سبقته إلى البرزخ اللازوردي الأثير وربما تأتي بعده وبعده وبعده ثلة من الآخرين.. وكان من قبل قد جاء الصحفي اللبناني الراحل سليم اللوزي صاحب ورئيس تحرير مجلة الحوادث.. قتلوه.. ذبحوه وقبلها حرقوا أصابعه بمادة (الاسيد) الحارق.. وبعده جاء الفتى غسان كنفاني الشاعر الصحفي الذي أضاء الدنيا حولنا بقناديل شعره الأخضر والكلمة الحديقة.. الزهرة الوريفة.. ومضى شهيداً للرأي في بلاط صاحبة الجلالة.. وبعده جاء الفتى الحيي ناجي العلي.. ذاك الكاريكتيرست الشفيف الذي مزج أصباغ فرشاته ببريق دروع جوبتير ودموع حنظلة الذي تراه واقفاً كالأبد إلى جوار صنوبر الأمد.. حنظلة تميمة ناجي التي كان يذيل بها أعماله الكاريكتيرية وهو يعقد يديه خلف ظهره ويحدق في صنوبرات اليتم التي تنهض إلى جواره باكية.. رحل ناجي العلي وترك خلفه ألف.. ألف حنظلة يجلس على حناجر قادة الرأي العام العربي. أما سيد شهداء الرأي يا سادتي هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان لا يخشى في البوح كل قوانين الغاب وكل (أسود) الغابة العلوية.. انتقل الرئيس (رفيق) إلى الرفيق الأعلى وعلى زاوية فمه نصف ابتسامة.. وعلى الزاوية الأخرى سؤال طويل ظل بلا إجابة وسيظل السؤال يدور في فلك الضمير العربي إلى أن يرث الله الأرض والأزهار الدمشقية.. سيظل السؤال حائراً بلا إجابة وهو يمشي على طوحال الوطن العربي الذي أهدى أخيراً لشهداء قادة الرأي العربي (ثورات الربيع العربي) التي تفتحت أزهارها في تونس وغشي فوحها اليمن السعيد.. وأحرق صهدها وجه الجنرال علي عبدالله صالح الذي يمشي اليوم حافياً.. مشرداً ومشوهاً في شوارع المنافي الخلفية. وهنا في السودان يا سادتي لم تسقط بلادي من شرفة الشمس والمنابر وحفيف أرواح الشهداء.. ولعله تعي الذواكر شهيد الشمس الذي حملت روحه الطاهرة حواصل طير خضر وبقيت شظايا جسده المنهكة في حوض (الاسيد) الذي ذوبوها فيه.. إنه الصحفي الصارم المصادم محمد مكي صاحب ورئيس تحرير صحيفة (الناس) الذي اشتهر بين الناس باسم (مكي الناس).. قتلوه أو بالأحرى ذوبوه ثم رموا بذوبه خلف الشمس.. وكان الشهيد (مكي الناس) قد تم اختطافه من عاصمة دولة عربية لا داعي لذكر اسمها.. وهي الآن تغلي في مرجل (الجحيم العربي) الذي تواثق الإخوة العرب على تسميته (الربيع العربي). كان آخر الشهداء ولعله ليس آخر شهيد صاحبة الجلالة الذي سقط في بلاط الشهداء مع حملة المشاعل والرأي والكلمة الصرخة.. إنه يا سادتي الشهيد محمد طه محمد أحمد الذي ذبحوه ذبح الشاه.. ثم وضعوا رأسه فوق ظهره متشبهين في ذلك بحملة الرايات السوداء من قتلة القاعدة التي تم سحق رأس الحية الذي كان يقودها ولكن ظل بعدها ذيل الحية يتراقص تحت ظلال القمر الأسود. الله.. يا مليكتي يا صاحبة الجلالة.. أما حان الوقت ليعود اسمك القديم.. بلاط صاحبة الجلالة وليس (بلاط الشهداء) الذي ذبح فيه جدود الرئيس السابق ساركوزي والرئيس اللاحق هولند.. جدودنا في أكبر مجزرة لم يشهد التاريخ مثيلها آنذاك. أيها السادة وبعد أن وحد (الربيع العربي) وجدان أمة العرب.. لا استطيع أن أفرق بين شهيد سوداني وآخر عربي.. فكلاهما شهيد.. غير أني يا صحابي إن أنسى.. لن أنسى الدكتور سمير قصير الذي اغتاله (العلوج) في منطقة الأشرفية ببيروت.. قتلوا سمير قصير نجم صحيفة (النهار) الذي ظل يكتب بها عموده الشهير الذي كان بمثابة منصة صواريخ.. كان سمير يوجه عبرها أبجدية الدمار الشامل ويدك بها قلاع قياصرة الظلم وأباطرة الزمن الخاسر.. قتلوا سمير الفتى المعارض المصادم.. الأستاذ الجامعي الذي كان يدرس مادة العلوم السياسية لطلابه بجامعة القديس يوسف ببيروت. لك الله أيها الشهيد الكبير سمير قصير.. لك الله وأنت في عليائك ترفل في حلة زاهية وأنت في مقصورة ملائكية داخل حواصل طير خضر وأنت تجلس على كرسي مبطن بالمخمل ومطهم بالعسجد وتكتب عمودك بمداد ضوء النهار في صحيفة (النهار) التي كنت تعمل بها. لا تبكِ يا قلبي فقد انتهى زمن البكاء.. لا تحزن يا قلمي فقد انتهى زمن الحزن الخاص فإننا نعيش يا حزن الآن في زمن الحزن العام.. وعليك يا قلمي أن تكتب وتكتب أبجديتك في رسالة مفخخة تبعثها من تحت الدماء إلى أعداء النهار في كل دار.. لا تحزن يا قلمي فالحزن أصبح عملة قديمة في أيدي أهل الكهف الجدد الذين يعيشون الآن في قاع المدائن ومستوطنات السكن الرمادية.. ولك يا قلبي ويا قلمي أن تهتف ملء فمك (سقط العدل في المدينة).. ويردد الكورال سقط الدمع في المدينة.. سقط الحب في المدينة. سقط يا صحابي كل شيء.. كل شيء تقريباً.. لي ولكم الله أيها الشهداء يا عرسان السماء.. ولك الله يا سمير قصير.. أما نحن والجميع فليلهمنا الله الصبر الجميل وفي معيتنا صغيرتاك الجميلتان يا سمير وأرملتك الشابة الحزينة الجميلة الزميلة الإعلامية (جيزيل خوري) التي تعمل حالياً في شبكة العربية الفضائية.. وليلهمك الله معنا يا جيزيل الصبر الجميل.