هاتفت أخي وصديقي وابن قريتي مستر علي إبراهيم أبو قرجة كبير الجراحين بمستشفى أم درمان لأهنئه بالعيد، وكان دكتور علي قادماً لتوه من (أم غنيم) تلك القرية الواقعة على الشاطئ الغربي لبحر أبيض حيث كان المنظر المعتاد الذي تفتحت عليه عيوننا في الطفولة وريعان الصبا هو مسطح مائي واسع ترتفع بعده الغابات الخضراء التي تسد الأفق في الشاطئ المقابل الذي هو امتداد للجزيرة أبا التي تبدأ من مشارف كوستي الشمالية وتمتد حتى تبلغ الملاّحة والشوال. سألت علياً كيف وجدت الأهل والأحوال هناك، فإذا به يفاجئني بقوله إن أشد ما بهره في تلك المنطقة هو استعادتها لخضرتها ورونقها في الشاطئ الغربي بعد سنوات متطاولة من الجفاف والتصحر، وقال إن المنطقة عادت إلى عهد الخمسينات وتلك المناظر التي كنّا نستمتع بها عندما كنّا ( نرعى العجول)- حول أم غنيم، وإن ذلك- للغرابة- هو نتيجة لجهد رجل واحد فرد يدعى (الطيب أبو عتلة) فسألته وماذا عندما تنظر عبر النهر إلى غابات الجزيرة أبا التي كانت تظلل الأفق الشرقي، فأجابني الحال هناك كما هو، جفاف وتصحر، ثم سألته إن كان قد التقى الطيب خلال زيارته، فقال إنه التقاه وحصل على رقم هاتفه الجوال الذي زودني به، فلم أتردد في الاتصال به والحديث إليه مرتين. سألت الطيب أولاً عن اسمه الكامل فقال لي أنا الطيب آدم جمعة، ثم استفسرته عن لقب ( أبو عتلة) الذي يلحق باسمه فقال إن هذا لقب يعود إلى أيام الصبا حيث كنت في أغلب الأحيان أحمل عتلة صغيرة بدل العصا وأنا ألعب بين أقراني، فبدأوا ينادونني ب ( أبو عتلة) وتبعني ذلك اللقب حتى اليوم وأصبح اسم شهرة. سألته متى التحقت بالغابات وكيف كانت البداية؟ قال البداية كانت تطوعاً من جانبي وبعد فترة قصيرة تم تعييني من مصلحة الغابات في الخرطوم- عن طريق مكتب العمل- خفيراً- للغابات بالمنطقة، وكان ذلك قبل 13 عاماً ، حيث أُلحقت بإدارة الغابات بولاية النيل الأبيض في كوستي وتدرجت في العمل حتى أصبحت أخيراً (ملاحظ غابات) نتيجة تصميمي وجديتي في العمل، حتى عادت للمنطقة خضرتها ونمت غاباتها على الصورة التي نقلها إليك دكتور علي أبو قرجة. قلت له وكيف استطعت التغلب على نهم الناس وتكالبهم على القطع الجائر، ونحن نعلم أن الناس في القرى هناك عادة ما يكونون في حاجة لحطب الوقود وللفحم، فقال كنت دائماً صارماً ولا أجامل ولا أتردد في استخدام القانون والشرطة في مواجهة كل من يعتدي على شجرة أو غابة بدون إذن أو تصديق رسمي من الغابات، وأردف لقد تقدمت بشكوى ضد شقيقي لأنه مارس القطع الجائر وتم حبسه بالحراسة ليومين كاملين وحكم عليه بغرامة 450 جنيهاً نتيجة لذلك، وأضاف لقد تعرضت في أحيان كثيرة لمنازعات عنيفة من قبل الذين يقطعون الأشجار التي تكون في بيوتهم أو مزارعهم اعتقاداً منهم أنه من حقهم أن يفعلوا ذلك طالما كانت تلك الأشجار في أرضهم، وتمكنت في أغلب الأحيان من منعهم من فعل ذلك، لأنه لا قطع بدون إذن أو تصديق رسمي، فإدارة الغابات هي الجهة التي تتخذ القرار في هذا الصدد ثم هناك رسوم وضرائب يجب أن يدفعها كل من يحصل على التصديق، وتمكنت بفضل الله من أداء واجبي على خير ما يكون ، كما أنني تعرضت في أحيان أخرى للإغراء بالرشوة ورفضت ذلك رفضاً باتاً وبلغت الجهات العدلية والشرطية عن تلك الممارسات وكان نصيب أولئك أيضاً الغرامة والحبس والتوبيخ. ويحكي الطيب قصته مع حماية الغابات بشوق وعشق كبيرين، وعن مدى العنت والنصب الذي واجهه في السنوات الأولى من المواطنين الذين كانوا يسبونه ويدعون عليه ويتوعدونه، ويقول إن نفس هؤلاء الذين كانوا يعارضونني ويكرهون تصميمي على منعهم من ممارسة القطع الجائر أصبحوا اليوم يشكرونني ويدعون لي بالخير بعد أن رأوا منطقتهم خلافاً لكل المناطق تنمو غاباتها وتخضر وتستمطر لهم خير السماء مدراراً فتنمو الأعشاب في الخريف وتشبع بهيمة أنعامهم وتمتلئ الضروع، فأدركوا أخيراً أن ما كنت أفعله، ولا أزال، هو لصالحهم. الطيب أبو عتلة مسؤول عن منطقة تمتد من كوستي شمالاً حتى ( الشور) (120 كلم) تقريباً أي عن كل الحدود الشماليةالغربية لمركز كوستي، وتحدث أيضاً عن أنواع الغابات التي عادت للنماء، وهي الطلح والصنت والكتر في المناطق المحاذية للنيل وكذلك تم استزراع أشجار الهشاب في المناطق الغربية حيث الرمال والقيزان والأودية وقال إن أشجار الهشاب بدأت تُعطي الآن ثمارها من الصمغ العربي. أطرف، بل أغرب ما في قصة هذا الرجل، هو أنه آخر المستفيدين من هذا الجهد الجبّار. فعندما سألته بحياء- عن الفوائد الشخصية التي جناها من هذا الكدح المضني، أجابني بقسم مُغلظ، أنه لم يستفد شيئاً مادياً، ومع ذلك يشعر بالراحة وسعادة لا تدانيها سعادة لأنه يرى ثمار عمله تهطل خيراً وبركة على منطقته وأهله، فراتبه الشهري كما قال هو (250) جنيهاً فقط لا غير. سألته ألا يتلقى حوافز تشجيعية فقال: شيء لا يذكر بين عام وآخر، وأنه يعتمد في عيشه على ما يحوله له بعض أبنائه الذين يعملون في الخرطوم، وأنه لا يملك منزلاً خاصاً وإنما يعيش في دار يملكها السيد الأمين يعقوب حفيد الخليفة علي ود حلو (مشكوراً - كما قال- وذلك بعد أن انتقل السيد الأمين إلى الخرطوم). قصة الطيب أبو عتلة، خفير وملاحظ الغابات، تصلح لأن تعمم مثالاً على كل خدمتنا المدنية، حيث يجلس الآلاف المؤلفة من الموظفين العاطلين على الأرائك والطنافس ومكيفات الهواء ويمتطون أفخر ما انتجه العقل الأوروبي والياباني من سيارات ولا يفعلون شيئاً أكثر من الأُنس وتبادل القفشات والضحكات عبر الهواتف الجوالة ناهيك عن المرتبات الكبيرة والحوافز وبدل السفريات. حالة الطيب أبو عتلة مرفوعة للسيد أنور عبد الحميد الحاج مدير الغابات بولاية النيل الأبيض ، وللسيد والي ولاية النيل الأبيض، وللسيد وزير الزراعة والغابات، ليس فقط من أجل إنصافة المستحق فهذا آخر ما يشغل بال الرجل- ولكن من أجل تعميم أنموذجه في مواجهة الجفاف والتصحر الذي يضرب كل أنحاء الوطن.. فهل من مُجيب!.