ü بينما كان أبو فراس الحمداني- « الحارث بن سعيد بن حمدان،320 -357»- يتصيد بنواحي «منْبج» شمالي سورية صادف ابن أخت ملك الروم في ألف فارس، فقاتلهم وأصيب بسهم وأخذوه أسيراً، وطلب الروم فداءً لأبي فراس، إطلاق ابن أخت آخر لملك الروم كان أسيراً لدى سيف الدولة أمير بني حمدان في حلب، فكتب أبو فراس قصيدة عنوانها «الفداء» وأرسلها إلى ابن عمه وصهره سيف الدولة يحثه على «تبادل الأسرى»- بلغة اليوم- أي فداؤه بأسير الروم، والتي يقول في مطلعها: دعوتُك للجَفن القريح المُسهّد.... لدي، والنوم القليل المشرّد وماذاك بخلاً بالحياة وإنها.. لأولُ مبذولٍ لأولِ مُجتدِ ولستُ أبالي إن ظفرتُ بمطلبٍ.. يكون رخيصاً أو بوسْم مزوّد ولكنني اختار موت بني أبي.. على صهوات الخيل غير موسّدِ وتأبى وآبى أن أموت موسداً.. بأيدي النصارى موت أكمدَ أكبدِ ü نعم هو ذات أبي فراس القائل في مناسبة أسره قصيدة «عصي الدمع» التي سارت بذكرها ركبان العرب أينما كانوا وصدحت بها سيدة الغناء أم كلثوم، والتي اشتكى فيها لحبيبته، وحبيبته فقط، حقيقة معاناته من أسر باعد بينه وبينها وتجاذبته فيها مشاعر الرقة والاعتزاز، والوجد والفروسية و الإنكسار والاعتزاز.. معاناة صاغها شعراً أهلته فرادته المائزة للخلود وتخطي حواجز الزمن، فهو القائل في تلك القصيدة: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر.. أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ بلى، أنا مشتاق وعندي لوعة... ولكن مثلي لا يذاع له سرُّ إذا الليل أضواني بسطتُ يدَ الهوى... وأذللتُ دمعاً من خلائقه الكِبْرُ إلى أن يقول: معللتي بالوصل والموتُ دونه.. إذا بتُّ ظمآناً فلا نزل القَطْرُ ü أبو فراس هذا نذكره اليوم، لأن حلب الشهباء درة الشام، أرض بني حمدان.. «الحمدانية» وما جاورها من أحياء المدينة وأريافها، لا تشهد غزواً رومياً تصدى له هو ورفاقه الأشاوس بسيوفهم وسهامهم، إنما تدكها وتقتل أحفاده الآن، وأحفاد أستاذه العالم اللغوي ابن خالويه وذراري سيف الدولة، وأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء في «المعرة» القريبة، تقتلهم جميعاً بلا رحمة أو شفقه دبابات ومدافع وبنادق سوريين - لحماً ودماً- دونما هوادة.. ذنبهم الوحيد أنهم يطالبون بالحرية والكرامة والمساواة، وكأنّ لسان حال بشار- بقصيدة أبي فراس- يقول لشعبه، كما قالت لأبي فراس معشوقته «لقد أزرى بك الدهر بعدنا» وإذا بشعبه يجيب بصوت واحد من درعا إلى حلب ومن البوكمال إلى اللاذقية «معاذ الله، بل أنت .. لا الدهرُ»، .. أبو العَلاء المعري وأبو الطيب وأبو فراس وابن خالويه وسيف الدولة وكل النجوم الزاهرة من الصحابة والتابعين والصُناع والمبدعين الذين ضمت رفاتهم أرض الشام، لابد أنهم يتململون الآن في قبورهم وتبث أرواحهم اللعنات تطارد بشار وزبانيته وشبيحته الذين ينتظرهم بئس المصير، كذلك المصير الذي كان في انتظار القذافي وبعض أنجاله في بني وليد ومصراته والزنتان. ü «الشهباء» حلب الآن تنزف، ولكنها تعض على جراحها وتقاتل ببسالة، «تخطُّ للفجر دروبه» ولبشائر النصر مسارب. أبطال حلب من الجيش الحر سيطروا على أهم أحيائها «الحمدانية ، والميدان، وصلاح الدين» ويقاتلون الآن حول مقر الاستخبارات الجوية والمحكمة العسكرية، بعد أن دمروا من قبل مبنى حزب البعث الحاكم ومقر قيادة الشرطة.. وأهم من ذلك أنهم فتحوا الطريق شمالاً واستولوا على حاجز «عَمَدان» الإستراتيجي على الطريق الواصل إلى الحدود التركية، كاسرين بذلك الحصار ومؤمنين امداداً متصلاً وتواصلاً بالخارج. كل المؤشرات تؤكد أن الثورة السورية تتقدم وتنتصر، حتى أن رجالها في الجيش الحر والمجلس الوطني وتنسيقيات الثورة وهيئاتها الشعبية في الداخل بدأوا البحث «جدياً» في البديل لنظام بشار الذي بدا في هيئة ثمرة «ناضجة»آيلة للسقوط في أية لحظة. ü حالة «النضوج» والترنح هذه حفزت تركيا للدفع بتعزيزات عسكرية كبيرة على الحدود تحوطاً لردود الأفعال غير المحسوبة من نزوح كثيف أو اقتتال يمتد إلى داخل أرضها، مثلما دفع القلق رئيس وزرائها أردوغان للطيران إلى الولاياتالمتحدة للقاء كبير حلفاء الأطلنطي الرئيس الأمريكي أوباما، للتشاور والاستعداد ل«لحظة الانهيار الأسدي»، وأكد الرجلان على أن ليس ذلك على الله والشعب السوري بكثير أو بعيد، وأعلنا أن مايهمهما هو أن تبقى سوريا موحدة أرضاً وشعباً وقوة عسكرية، تجنباً للفوضى وعواقبها. ü حلب «الشهباء» سيسجل التاريخ لها الفضل في قبر أعتى نظام مستبد وفاسد، كمشهد خاتم لمسلسل الثورة السورية المنتصرة.