الحج رحلة مباركة وسياحة محمودة، ومناسبة ميمونة وللحج بركات متنوعة وفوائد متعددة، ودروس مفيدة وأسرار بديعة، لمن يسّره الله له ، ووفّقه لأدائه على الوجه المشروع وبالنية القاصدة. الحج ركن من أركان الدين ، وموسم إلتقاء المشاعر لكافة المسلمين ، وهو رحلة العمر، وختام الأمر، وتعظيم لشعائر الله «ذلك ومن يعظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب».. للحج حِكَم جليلة ومقاصد عظيمة نجملها فيما يلي: أولا: إعلاء عقيدة التوحيد، ففي حديث جابر بن عبد الله في صحيح مسلم «فأهلَّ رسول الله بالتوحيد.. لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك». هذه العبارات التي صارت شعاراً للحج يهتف بها الحجاج بين يدي المناسك كلها. ثانياً: الإمتثال لأمر الله والتأسي برسول الله، فإنه ما من عبادة يتجلّى فيها هذا المعنى مثل الحج ، فالحجاج لا يفعلون في المناسك كلها سوى الإمتثال لأمر الله والتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم كالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وتقبيل الحجر الأسود أو لمسه أو الإشارة إليه، مغازيها وأحكامها في الاستجابة لأمر الله بلا تردد أو تلجلج ، ثم استدعاء تلك الذكريات الربانية والرسالية العامرة بالمغازي والدلالات، ذكرى الأسرة التي لم تبالِ في سبيل الله، وذكرى الولد الذي قدّم نفسه قرباناً لله!! ثالثاً : الإكثار من ذكر الله شكره حيث أن من أهم مقاصد الحج توجّه القلوب إلى الله والإقبال عليه والإكثار من ذكره وشكره في المناسك كلها.يقول تعالى «فإذا أفضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين».قال صلى الله عليه وسلم :«إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله». إذن فليلزم الحاج السكينة والطمأنينة بدل العجلة ، وذكر الله بدل الغفلة واستذكار السيرة والمواقف التاريخية بدل المدافعة والمزاحمة والإخبات بدل الجدال والمزاح. رابعاً: من حكم الحج العظيمة ، تطهير النفوس من آثار الذنوب لتصبح أهلاً لكرامة الله في الدار الآخرة ولذلك جاء الأمر أن يتجرد من المخيط المحيط.. نعم يتخلى عن ثيابه وهندامه، بل عن زينته كلها ... عطره وأمشاطه وشهواته .. شهوة البطن للنهم وشهوة الفرج للجماع وشهوة النفس للمؤانسة والمزاح.. إن الحاج يستدبر الدنيا كلها ويستقبل الآخرة.. أشعث أغبر، مفتقراً إلى الله وشديد الحاجة لعونه، ملحاحاً في الدعاء، راجياً رضاء ربه ومغفرته ، ترك الأهل والديار والمال والمتاع ، وتنازل عن الألقاب والصفات، فكل الناس وقتئذ ينادون «يا حاج» عراة إلا مما يستر العورة من لباس، وما يقيم الأود من الطعام، الحديث ذكر والصمت فكر والشعار دعاء وتلبية ، إن الله يريد رؤية عباده الحجاج في تلك الصورة بتلك الصعد الجرداء ، الصحراء، حتى يكونوا أهلاً لنزول البركات وقبول الدعاء .. بيئة طاهرة وقلوب واعية ومناخ مفعم بالحب في الله، حب الخلق لخالقهم، ومحبة الخالق لعباده المنكسرين المخبتين المتجردين، فالحج معسكر روحي يتدرب فيه المسلم على الجهاد في سبيل الله، والمثابرة على دربه، والصبر على منهجه.. إن اضطراد ازدياد أعداد الحجاج كل عام مع محدودية الأمكنة ومواقع النسك والمشاعر التي أدت في أحيان كثيرة لإزهاق الأنفس وفوات الأرواح بسبب الزحام والعراك ، جعلت كثيراً من الحجاج يتوجسون خيفة عندما يجترون تلك الذكريات المؤلمة أو يسمعون تلك القصص المفزعة في أمكنة أجدر بالطمأنينة وسكينة النفس، وشرع فيها تعظيم حرمات الله وربط الأرض بقيم السماء والاعتبار فيها بآيات الله، يأمن فيها الطير والشجر، فكيف بالناس والبشر؟ هذا الأمر لا بد أن يهز العلماء ويلفتهم بقوة للاجتهاد في تبسيط وتيسير فقه الحج بالنظر في مقاصد الدين الكلية في تشريع العبادات والنفاذ إلى روحها لا التمسك بشكلها ومظاهرها. فالحج خصوصاً أحكامه مبنية على التيسير والتخيير، فشرط التكليف فيه الاستطاعة .. الزاد والراحلة واختلف العلماء بين الفور والتراخي في استجابة المكلف. الإحرام به ممتد لأشهر معلومات .. شوال وذو القعدة إلى العاشر من ذي الحجة. الإنساك فيه ثلاثة .. تمتع .. أو قران .. أو إفراد .. التخيير في الفدية .. بين الصيام والإطعام والنسك، التخيير فيه بين التعجل في يومين أو التأخر بمنى.. المرجع في فقه الحج دلالة فعل النبي صلى الله عليه وسلم القائل«خذوا عني مناسككم» لذلك رفع صلى الله عليه وسلم الحرج في تقديم أو تأخير أعمال يوم النحر..روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله وقف في حجة الوداع للناس يسألونه، فقال رجل : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال له أذبح لا حرج، فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال أرم ولا حرج ، فما سئل النبي عن شيء قدّم أو أخّر إلا قال «إفعل ولا حرج» فصارت شعاراً لأعمال الحج. الحج مؤتمر إسلامي عالمي ، يلتقي من خلاله ممثلون لكافة دول العالم .. كافة النحل والملل والشعوب والطوائف .. مختلف الألسنة والألوان والسحنات .. يحملون هموم بلدانهم وأقوامهم لتقارن وتلاقح مع غيرها من هموم الشعوب المسلمة الأخرى فتتولد الأفكار والحلول ببركة البيت الحرام ومسجد نبيه المصطفى والمشاعر المقدسة فتنزل البركة والطمأنينة على القلوب، ويستشعر الجميع «عظمة » الإسلام و«عظم» شعوبه وأتباعه فيثمر ذلك استذكاراً «لعظمة» الخالق وانتصاراً للمسيرة المباركة كيف شاء وبما شاء رب العالمين. إن مشهد الحجاج في صعيد واحد عل« ذرا عرفات ، أشبه المشاهد بيوم الحشر.. يوم الهول العظيم.. فالناس عراة إلا من إزار ورداء !! المظهر مشترك والأكف مرفوعة بالدعاء .. والكل مشغول عن أخيه، وأمه وأبيه استدبروا الدنيا وقد تعلقت القلوب والأنظار بالسماء، إذن فالمشهد «بروفة» وصورة تقريبية ليوم القيامة حتى يصدِّق من كذّب ويزداد الصادقون إيماناً بأن الآخرة حق وصدق وأن العالمين الذين وسعتهم هذه البيداء اليوم، سوف تسعهم أرض المحشرغداً«يوم يقوم الناس لرب العالمين».