ويا لروعة المبارزة بالحروف.. ويا لبهاء القتال بالكلمات.. ويا لإبداع المعارك عندما تكون الذخيرة هي المداد والأحبار.. ويا لرصانة المعارك والعراك عندما تكون الأسلحة هي الأفكار.. ويا لسعادتي وأنا الآن استمتع حد الدهشة والمتعة وكأني مثل «صلاح» في قمة «الأولمب» جالس.. استمتع حد التخمة والشبع وأنا أتابع مبارزات بالحروف أبطالها الأحبة.. يوسف عبد المنان.. وعبد الماجد عبد الحميد وبكري المدني.. هي معركة أعادتني إلى معركة بديعة وأنيقة.. دسمة ورفيعة.. مبارزة شريفة.. طاهرة.. جرت أحداثها بين المقاتلين بالكلمة والشعر المتدفق جداول من البهجة والدعاش، ورذاذ المطر.. محمود درويش وسميح القاسم.. كان كل منهما.. يدعي أنه ابن «فلسطين» أكثر من الآخر.. تمنيت وقتها أن لا تنتهي تلك الفصول من المتعة والروعة والعظمة.. فقد كان غبار معركتهما.. أريجاً من صندل.. وملمساً من مخمل.. والصورة لن تكتمل.. إلا إذا حضرت الجياد المطهمة.. وعلى أعرافها.. فوارس وفدائيون.. وكواسر.. كتبت لها.. حينها.. وعلى صفحات الأيام عنواناً صاخباً.. أيها الشعراء القنابل.. السنابل.. أحبكم.. اليوم أعود إلى معركة.. الأحبة.. يوسف.. ماجد.. بكري.. وكلهم يبكون بدموع الخنساء.. على وطن.. يجابه وحشاً أسطورياً كاسراً.. مفزعاً ومخيفاً.. اسمه القبلية والجهوية.. صحيح.. أن بعض شظايا الحروف قد تطايرت.. ولكنها لم تحدث أذىً ولم تدمي.. والآن أحبتي.. دعوني أهتبل هذه السانحة.. لأساهم مع الذين يخشون على السودان من هذا الخطر الماثل الماحق.. دعوني.. أنزف وأرعف.. بكاء على وطن يعود القهقري إلى مضارب تميم.. ورمال نجد وتلال الملح في تهامة عندما سادت الجاهلية الجاهلة.. عندما حكمت البيداء والصحراء تلك العنصرية البغيضة.. والقبلية المنتنة.. تلك التي بددها.. نور الإسلام.. وطمرها حديث النبي المعصوم.. وهو يعلن في صدق وحق.. وينهي في قوة وإبانة رفضاً للقبلية.. بحديثه العظيم.. دعوها إنها منتنة.. وفي الخاطر أيضاً.. وفي تجاويف الصدور يقيناً.. وفي سويداء القلوب ثباتاً.. تلك الحادثة التي كان الرسول المعصوم عليها شهيداً.. عندما تحدث أحدهم أمامه ناعتاً أحدهم بعرقه وأصله وفصله.. ليرد النبي الكريم.. عليه بالقول.. يا فلان فيك بعض جاهلية.. أحبتي.. بالأسف كله.. وبالحزن أجله.. وبالمأساة أفدحها.. إن الإخوة في الإنقاذ.. أفراداً وقادة ودولة قد ساهموا في استشراء هذه القبلية اللعينة.. ونفخوا في رميمها الروح بعد طول رقاد.. وإلا ما معنى.. أن يصرح.. أركن أركانهم عبر الفضاء وعلى صفحات الصحف.. وأمام فلاشات الكاميرات.. إن القبيلة الفلانية وعن بكرة أبيها قد انضمت إلى المؤتمر الوطني وبايعت الإنقاذ.. ثم ما معنى تلك الحروف القبيحة والكلمات التي بلا معنى.. وورقة رسمية مختومة بخاتم الدولة ومروسة في أعاليها بمصلحة أو وزارة.. تطلب من مواطن سوداني.. وفي سطر يفيض قبحاً وكآبة.. واستفزازاً.. تطلب منه أن يكتب اسم قبيلته.. ألا يكفي أنه سوداني.. وهل هوية أغلى وأثمن وأعظم من الجنسية السودانية.. لا أود إيراد أمثلة تحوم حولها الشكوك حتى لا أرمي أحداً أو جهة بالباطل.. لن أكتب حرفاً عن «كلامات» تحوم، بل أمتلأ بها الفضاء.. بأن هناك جهة أو مصلحة.. أو وزارة.. من ضمن شروط الالتحاق بها هو «القبيلة».. متى.. متى.. متى.. نصل إلى شاطيء السلامة وضفاف الرشاد.. لندرك أن السودان ملك لكل أهله.. إن كانوا من الزغاوة في الغرب، أو الأمرأر في الشرق، أو النوبة في الوسط، أو نوبيي الشمال بكل بطونهم، وعرب الوسط بكل أفخاذهم لا ميز لأحدهم أو فضلاً ورفعة على الآخر إلا بكسبه.. أما الشفقة فلم تكن أبداً على أناس لا يشفقون على أنفسهم إنما على السودان مصيراً ومآلاً.. كما أن تقييم الناس على أساس الانتماء العرقي له وصف في فقه حقوق الإنسان يرمي بفاعله إلى جيل من الساسة لا يتمنى عاقل أن ينسب إليه، أو يلحق به ألا وهو النازيون.. بكرة نلتقي..