أيقظت الجراح المتكئة على حبل الصبر رحلوا وتركوا الريح تعبث في المكان.. الله ما أروع ذلك التعبير الذي خطّه يراع الأستاذ عبد العال السيّد في عموده المقروء لقد أيقظ الجراح المتكئة على حبل الصبر، والتي ما كان يمكن أن تندمل. هؤلاء الذين رحلوا تركوا جراحاً دامية لا تداويها الأيام، ولا تطفئ نيرانها سيول وأنهار الدموع والآهات. هؤلاء الذين رحلوا هكذا.. تركوا بصماتهم في وجداننا.. في أعماق أعماق المجهول فينا.. فنحن كلما حاولنا وبذلنا الجهد أن نجعل رحيلهم حقيقة بائنة.. وجدنا أننا ننكر ذلك. لقد أصبحنا ندمن الألم وندمن ذرف الدموع يذكرني ذلك المطلع الذي بدأت به ما كان يردده أنصار الإمام الهادي رحمه الله حين تأكد استشهاده .. إنهم ينكرون ذلك رغم إيمانهم بحقيقة الموت.. وإيمانهم بمشيئة الله.. وأصبحوا كلما ذكروه يلقبونه بالإمام الغائب. فيا أنت التي رحلت في مثل هذه الأيام في شهر رمضان الكريم قبل سنوات قليلة.. إن الريح لا تزل تعبث في المكان.. وإن الريح لا تزال تحرك كل اللوحات الجميلة التي تركتها خلفك. تقتلنا الذكريات وترهقنا.. وحين نتعب من ذلك نلوذ بالصمت الجميل.. كما أننا أصبحنا مثل الصغار الذين يلعبون تحت زخات المطر ويستمتعون بذلك.. نحن أيضاً تحركنا الرياح الهوجاء التي تفور في دواخلنا كلما هاجت الذكرى.. ومع ذلك فإن الطوفان يعقبه اندثار.. والجليد يعقبه ذوبان... والجفاف يعقبه اخضرار. هكذا هي الحياة ياعزيزي عبد العال! ورغم أن كلماتك قد فتحت أبواب الأشجان.. إلا أنني أعود وامتثل بقولك: (يا هذه الأشجار هل مرت هنا؟ ذكرى وجوه تغسل الأكوان تنضح بالسنا). ونحن ننضح بالحزن على الذين أسرعوا بالرحيل وتركونا نتفكر في هذا الكون وحكمته.. فالأحياء دائماً راحلون ومع ذلك فإن الأشجار حين يحركها النسيم تتراقص أوراقها في طرب.. وحين تحركها الرياح تهتز وتتمايل أغصانها في اندفاع قد يؤدي لتكسرها وانهيارها بما يوحي بالغضب والتمرّد. هكذا هي النفوس حين تشرق بالأمل وتتفتح الحياة أمامها فإنّها تطرب وتتمايل كالأغصان وقت الربيع.. أما حين تنوء بأحمال المتاعب وانكسارات الانهزام فإنها تصبح كسيرة.. عليلة.. فتنفجر فيها شلالات الأسى فتهيج وتهيج. ماذا أقول عزيزي عبد العال.. في مثل هذه الأيام قبل سنوات قليلة رحلت ولم يبق غير الدمع.. ولكنه دمع يغوص المآقي ولا ينهمر.. ويبقى هكذا على مر الأيام والسنين. رحلت وكان رحيلها كالعلقم في مرارته كان مفجعاً دون كلمة وداع.. ورغم أنّها قد تركت لنا وديعة رقيقة يانعة في لفافتها.. كأنها تدرك لوعة الفراق فأبت إلا أن تترك لنا جزءً منها، يزيل وحشة الليالي وكآبتها.. ها هي تنمو وتكبر.. وتكبر معها أحلامنا بأن تؤدي الرسالة، وتحفظ الأمانة كأنك يا عبد العال قد عشت تجربتنا.. أو بالأصح محنتنا... كأنك ياعبد العال تتحدث عنّا وتبوح بخلجات نفوسنا. فالأحياء الذين رحلوا أيها العزيز.. لا يهم إلى أين رحلوا.. هل هجروا الديار أم هجروا الدنيا.. لا يهم ذلك. المهم أنهم رحلوا وتركوا لنا جراحاً لا تندمل ورغم أننا نغدو ونروح.. نضحك ونحزن ولكنا في دواخلنا ننزف ونبكي ومع ذلك فإننا حين نرى مآسي غيرنا نواري أحزاننا ونعبر عن احترامنا بالحزن النبيل. أخي وأستاذي عبد العزيز جبورة عبر بأدق الكلمات عن الحياة والموت.. في البدء لم استوعب المعاني ولكن هكذا كتب حين هزته المأساة: (عجبي.. ما كان هذا في القوائم المعدة ما كنت قطعاً في حسابات لنا.. خاطئة كانت حساباتنا.. تركزت على عجاف الشجر المائلة المنهكة.. أما الزهور اليانعة أما العطور الرائعة أما المعاني المفردة.. فلا). ياعزيز.. مهما نقل فنحن لابد أن نغني للفجر الجديد... الذي تنمو فيه أزهار جديدة... تلك الأزهار علها تطفيء نيران أحزاننا وتفتح أبواب الأمل لتدخل السعادة من النوافذ.. فالحياة هكذا.. أبواب تقلق وأبواب تفتح.. الله يأخذ.. والله يعطي فلنتمسك برحمة الله. هكذا هي نواميس الكون... التي لا يستطيع العقل البشري أن يخترق أبوابها مهما تقدّم العلم وإزداد غرور البشر... لا شيء يهدي أحزاننا إلا إيماننا بالله.. الله الذين أبدع هذه المنظومة وجعل لكل شيء نهاية.. متى.. الله أعلم.