في البداية نرفع أندى عبارات التهنئة لعروس الصحافة، وهي تضع أقدامها بثبات على أعتاب عامها الخامس، بعد أن قذفت خلف ظهرها أربع سنوات، تميزت كلها بروائع العطاء وحسن البلاء ودقة المعلومة وملاحقة الأحداث قبل وقوعها في أحيان كثيرة، فحققت السبق واستحقت الريادة وحازت على مراتب الأولوية كصحيفة ذات نهج واضح، وأسلوب معروف ورسالة نافذة فلها التهنئة مثنى وثلاث ورباع. درج أستاذنا الكبير ميرغني البكري، شيخ النقاد الصحفيين على وصف شهر يونيو من كل عام بشهر الأحزان، انفلتت فيه من ساحة الإبداع أسماء لامعة، وأعلام ظاهرة نثرت على حياتنا المجدبة صنوفاً وألواناً من ألقها الجميل، ففي شهر يونيو فقدت الساحة الغنائية بعضاً من نجومها الزواهر منهم الشاعر الكبير سيد عبد العزيز والفنان حسن سليمان الهاوي، والفنان رمضان حسن (1976)، الفنان عثمان حسين (2008)، الصحافي الكبير سيد أحمد خليفة (2010) وغيرهم من أرباب الفكر وأهل الإبداع، الذين شكل رحيلهم فجوة عميقة في جدار سوح الإبداع، وميادين العطاء. شهر يوليو هو الآخر يمكن أن نصفه بشهر الأحزان ففيه غابت بعض الأسماء، التي استقرت خلف جبال المنية، بعد ان استوفت رزقها من الدنيا، فسلكت طريقاً محتوماً كلنا إليه صائرون، منهم الشاعر المعروف محمد عوض الكريم القرشي، أحد إهرامات الإبداع السامقة. عاش حياته بين الأبيض وأم درمان، مبدعاً لا يشق له غبار، له أسلوب معين في كتابة القصائد الغنائية التي تلقفها الفنان الخالد عثمان الشفيع رفيق دربه وتوأم روحه، فأضفى عليها من صوته الجميل مسحة من التفرد، بأدائه الباهر، فاستمرت رحلة عطاؤهما المشهود ردحاً من الزمان، لتمنح عشاق الطرب الأصيل، لوحات زاهية من حرائر الفن البديع، التي برع القرشي في تأليفها، وتفوق الشفيع في أدائها. يعتبر القرشي أحد أعلام كردفان البارزة، اتسمت حياته بروح الجماعية، فقد اعتاد طوال أيام عمره أن يجمع حوله رهطاً من الأحباب والاخوان، فجاءت كل أغنياته تحمل هذه المضامين وتتحدث عن هذه المعاني، فعند قدومه من الأبيض إلى أم درمان، تتحول الليالي إلى مجالس عامرة، يزينها الصحاب وتحفها الذكريات الندية احتفاءً بالقرشي، كانت مهنته في تجارة المواشي والمحاصيل تتطلب منه التجوال المستمر في ربوع كردفان والجزيرة، فكان كلما هبطت عليه أغنية جديدة بادر بإرسالها للفنان عثمان الشفيع ليكمل لمساتها الأخيرة، فقد حدثني الأستاذ النور صالح حميدة الذي رافق القرشي شطراً من حياته أن أغنية «ملامة» أو لحن الحياة كما يقولون أحياناً، كتبها في منطقة «جريبان» وسط زمرة من الأصدقاء، فلما فرغ منها طلب من وكيل البوستة أن يجمعه بمدير الإذاعة المرحوم متولي عيد عبر الهاتف، فكان له ما أراد، حيث أبدى الراحل متولي مكنون رغبته في أن يهيء له فرصة لقاء عثمان الشفيع في صباح الغد، ففعل متولي الذي اتصل بالشفيع وأبلغه نية القرشي وإلحاحه في لقائه، فكان أن أملى عليه النص الكامل لأغنية ملامة، مردفاً ذلك بتجديد أمنية أهل الأبيض لمدير الإذاعة متولي عيد، أن يلبي رغبتهم لسماع أغنية ملامة بصوت الشفيع في برنامج ما يطلبه المستمعون يوم الجمعة القادم، فاستجاب متولي لرجائهم وفتح أثير هنا أم درمان ليشدو من خلاله عثمان الشفيع لأول مرة بما كتبه القرشي وهي أغنية ملامة التي ما زالت الأجيال ترددها وتطرب لها كأنها وليدة اللحظة واليوم، كان القرشي سياسياً محنَّكاً ينتمي في توجهه الحزبي للوطني الاتحادي، يؤمن بمبادئه ويعمل على نشرها متخذاً من داره بالأبيض ساحة عريضة لخدمة أجندة الوطن العزيز، الذي حرص كثيراً على حشر اسمه بين أغنياته حتى تلك التي عرفت بالعاطفية، ففي أغنيته الشهيرة الذكريات وقف عند حقيقة العلاقة بين الشمال والجنوب متمنياً أن لا تنفصم عراها وأن لا ينفرط عقدها فتتناثر حباته، وقد أرسل دعوته مبكراً لمعشر الشباب خلال أغنيته الوطنية «وطني» بنبذ العنف وتحقيق مطلوبات السلام، حينما جهر بصوته هيا يا شباب ضموا الجنوب والقافلة سارت لن تؤوب حيوا السلام دكوا الحروب وماء نيلنا يكون عذوب.. وهي معان راسخة تتضافر الجهود الآن إلى إقرارها وتحقيقها، فالعلاقة بين جزئي الوطن علاقة أخاء صادق يؤكده الواقع المعاش، ارتباط القرشي بالشفيع لم يكن ارتباط شاعر بفنان بل تعدى ذلك للدخول لثنايا الأسرتين تواصلاً وحميمية ما زالت تتوثق عراها مع مرور الأيام وكر السنوات، عاش القرشي حياة قصيرة، فقد رحل عن هذه الدنيا وعمره لم يتجاوز السابعة والأربعين «1922-1969» إلا أنها كانت عامرة بالعطاء والبذل والاخاء الصادق، فمن شدة ارتباطه بالراحل عثمان الشفيع شاءت الأقدار أن يكون رحيل القرشي عن هذه الفانية في نفس اليوم الذي حدده الشفيع بداية لسلسلة أفراحه بمناسبة زواجه، فغابت شمس الأبيض المشرقة في ذلك اليوم الحزين الذي صادف الأول من يوليو 1969، فبموت القرشي انطوت أنصع الصفحات ورحلت أجمل الأغنيات وتمددت الحسرة والعبرات على فارس الساحة عاشق التبلديات.. فالتحية لأسرته في ذكرى رحيله الحادية والأربعين. في الثاني من يوليو 2001 انتقل إلى رحاب ربه الفنان علي محمد الأمين، الذي عرف في الساحة باسم سيد خليفة، فقد أسماه والده بهذا الاسم تيمناً بالسيد علي الميرغني رحمه الله، فقد كانت أسرته تنتمي لطائفة الختمية تردد أورادها وتشدو بأهازيجها المعروفة، كانت رغبة الوالد أن يبعث بابنه عام 1953 ليلتحق بالأزهر الشريف حتى يغدو بعد التخرج عالماً يرتدي الجبة والقفطان ينشر على الناس تعاليم الدين السمحة، وبالفعل التحق سيد خليفة بالأزهر واضحى طالباً فيه، ثم قدم أوراقه لمعهد الموسيقى وتم قبوله به ليتفرغ في النهاية لدراسة الموسيقى بعد تركه الأزهر الذي تزوَّد منه بالخلق القويم، والتدين العميق والسلوك المستقيم وهي صفات لازمت أبو السيد حتى ساعة رحيله، يعتبر الفنان سيد خليفة هو الفنان السوداني الوحيد الذي بدأت موهبته الغنائية خارج حدود الوطن، ففي القاهرة التقى بمجموعة من السودانيين هناك منهم علي البرير وبشير البكري وغيرهم من الذين ساعدوه للوصول إلى إذاعة ركن السودان التي قدم من خلالها عدداً من الأغنيات، جعلت سيرته تمشي بين الناس كفنان جديد توفرت له عناصر النجاح كلها من جمال الصوت وحسن الأداء، حتى جمعته الظروف بالشاعر الراحل إدريس جماع الذي كان يدرس في دار العلوم، فبدأ تعاملهما بأغنية في ربيع الحب، وقد اشتركا سوياً في صياغة لحنها، لتقوده الخطوات بعد ذلك للتعرف على الشاعر عبد المنعم عبد الحي، الذي كان يعمل ضابطاً في الجيش المصري حيث خص الفنان الجديد بمجموعة من الأغنيات التي دفعت مسيرة أبو السيد إلى الأمام، حتى استطاع أن يغزو كثيراً من المحافل الدولية يخلق للأغنية السودانية أرضاً جديدة، حتى أضحى سيد خليفة سفير الأغنية بلا منازع... نواصل...