ظننا أن الرحلة شاقة فهى طويلة فتلفتنا بحثاً عن زاد.. السائق فاجأنا وأشهر الجوال وقربه من راديو السيارة، المفاجأة الأكبر أنها كانت آخر تسجيلات الشيخ محمد سيد حاج فقلت أحدث نفسي (نعم الزاد). أكثرمن عشر محاضرات، وخطبة الجمعة الأخيرة من حياته، ومحورها جميعها ( التقوى). انتشرت عقب وفاته كالضوء حتى أدركتنا فى طريق الخرطوم مدني، تبث الطمأنينة والسكينة، فكأنه تعمد أن يلخص رحلة الحياة وقد غادرها على عجل، ربما يكون لسر يعلمه الله.. . فماذا كان سيقول بعد هذه النفحات، وقد دبجها وصاغها بالفصحى والعامية، وفيما يشبه الوصايا(فتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . سبحان الله، كانت محاضرته بعنوان: (إستقبال رمضان)، كلها وصايا وما فهمنا إلا الآن بعد أن اتضح أنه كان رمضانه الأخير، فجاءت كلماته ونبراته تنبىء عن مودع.. الوصايا جميعها فى محور التقوى سر هذا الشهر الفضيل وكل العبادات، ولسر يعلمه الله تعالى كانت الدموع تغلب على كلماته. الخطاب لتهيئة النفوس لاستقبال الشهر والتحفيز لاغتنام فرصه. اختار منذ البداية أن يحدد منهجه (الجدية والمسؤولية والمصداقية) مستهلاً بالكليات(أن رمضان فى تاريخ الإسلام صناعة أجيال وهو شهر للتغيير الكلي، ولكن التعامل معه أصبح تقليدياً) . يستعرض مظاهر للصوم التقليدي ويتعجب (فلان صائم لأنه خجلان من أولاده الصائمين، الليل مع المسلسلات، والنهار للنوم وشغله الشاغل ياولد طلع الصينية، هل نحن جادون، أم نريد دينا على كيفنا؟) . المطابع تطبع ولكن مافي قلوب تنفعل بالقرآن وبرمضان، ويضرب أمثلة لمخالفة بعض الناس لأحكام الشرع، يقول إن أمر الحجاب أمر عجب، وكذلك السفر مع محرم وغيرها مما حسم بأمر الله تعالى، ولا يحتاج لقرار( ما بينفع معاهم). يمضون الساعات فى الأسواق والجلوس أمام البيوت والشاشات، والمشي في الكباري ولكن التراويح يريدونها بأقصر السور. ويحكى( أنا مرات بخت الزول فى حتة ضيقة، بمسجد من المساجد سألتني إحدى الآنسات عن الستوت شكرتها على أنها جاءت المسجد لأداء الصلاة، وتسأل عن الصوم ثم قلت لها أمش اتحجبى الحجاب زى الصلاة دى جاء فى القرآن ). هناك تناقضات فكيف نستقبل رمضان والحال كذلك؟ . يفتي بضرورة أن نصوم صوم مودع. يمكن أن نحرم ولا نصوم، ويذكرنا بالأحباب والإعزاء والأقرباء الذين كانوا معنا فى رمضان السابق ورحلوا . يتساءل كيف نستقبله؟ حدد ( مواقف) الآن أصبحت وصايا، بدأت بدعوته للتأمل فى تصريف الله تعالى لهذا الكون، تداول الأيام والسنين، عام كامل مضى مقتطع من آجالنا ماذا فعلنا فيه، وأورد جملة آيات قرانية ( أحصاه الله ونسوه) ،(لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) ويكرر: عام مضى أين الشكر؟ أرجعوا بذاكرتكم للعام الماضي أين إخوان لنا وأحباب كانوا معنا، رحلوا لدار الخلود، نحن أحياء لك الشكر يا الله، لنصوم ونحمدك، العافية ليست بأموالنا، هناك أصحاء يهل عليهم الشهر ولا يصومون، لنشكر الله فى هذا الشهر الذى ننتظره بفارغ الصبر ليعتق رقابنا من النار.. اللهم أعتقنا من النار، معرفة حقيقة الصوم تعتق من النار، الصوم الحقيقي يعرضنا لرحمة الله، ياللفرحة، كل ليلة عتقاء، وفى ليلة التمام يعتق بعدد ما أعتق الشهر. ما أكرمك يا الله، يرددها الشيخ ويبكى منشداً : إن الملوك إذا شابت عبيدهم فى رقهم عتقوهم عتق أبرار وأنت يا خالقي أولى بنا كرماً قد شبنا فى الرق فاعتقنا من النار ويتساءل: من منكم لايعرف أن الذكر ينجي من النار؟ شىء عجيب أن نذكر الله ونحن نشعر بأننا اليه فقراء وهو بنا كريم، إنها العبودية الحقة.. علينا بذكر الله تذكرا لنعمه علينا.. أهل الجنة يتحسرون على ساعة مرت دون أن يذكروا الله ويطلبوا التوبة، . تجديد التوبة ومنذ الآن وفى هذه الجلسة،ويستشهد بألوان من البشريات (سترتها عليك فى الدنيا وأسترها عليك فى الآخرة، ادخل الجنة) . الفرحة فى رمضان ليس بالأطعمة الفاخرة ( هسه أقول ليكم قول، إيمانك لو ماقواك العصير بقويك؟ دعونا بالله عليكم نرى من أنفسنا خيراً فى رمضان لنفرح) اغتنام رمضان بالخوف من ضياع الوقت وحسرة السقوط فى سباق الصراط، ويضرب مثلاً بحالة من ذهب الى (البورد) يوم النتائج ولم يجد اسمه بين الناجحين.. ثم يحكي قصة فى طلب رحمة الله ومغفرته عن خوف ورجاء ويطالب بتعليقها على الجدران، خلاصتها أبكته )القوم على الصراط يركضون، اجتاز المشتاقون المحسنون المحبون لله وتخلف المذنبون والمسيئون) . التأمل فى تعاقب الأيام، الفرحة العارمة برمضان، الدعوة الصادقة، ويشير لأسرار نزول آية الدعاء وسط آيات الصوم( البقرة 186 ) فيفيض فى التذكير بفضل الدعاء فى رمضان. التوبة الجادة ،الإغتنام، وسادسا الإعتبار ( ان نعتبر رمضان الذى بين أيدينا آخر رمضان لنا، لنتذكر من حضروا معنا رمضان الماضي ورحلوا عن الدنيا، كيف كانوا سيفعلون برمضان ذاك لو علموا أنه كان الأخير فى حياتهم؟) فلنعتبر بدروس رمضان فلا نضيع وقتاً، ويكرر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له) . وسابعاً المعرفة برمضان، أن نعرف لماذا نصوم، المعرفة بالأحكام والفضائل وإلتماس الثواب من الله تعالى، الآمر بالصوم مختصاً بثوابه، ويقول إن المعرفة برمضان كفيلة بأن تحدث التحول المنشود فى حياتنا . هكذا حدثنا فى رمضانه الأخير الشيخ محمد سيد حاج المتوفى يوم السبت 24 أبريل 2010 عليه رحمة الله، نفعنا الله بعلمه وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء