يقول الله تعالى في محكم تنزيله (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخير ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف اليكم وأنتم لا تعلمون) الأنفال الآية 60(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) الأنفال الآية (61) تفسير هاتين الآيتين واضح ومباشر ولا يحتاج الى كثير عناء أو اجتهاد كما ورد في التفسير الميسر، وأعدوا يا معشر المسلمين لمواجهة أعدائكم كل ما تقدرون عليه من عدد وعدة لتدخلوا بذلك الرهبة في قلوب أعداء الله، وإن مالوا الى ترك الحرب ورغبوا في مسالمتكم فمل الى ذلك أيها النبي وفوض أمرك الى الله وثق به، إنه هو السميع لأقوالكم العليم بنياتهم.. ابن عباس يقول: إن الآية 61 منسوخة بآية السيف، ومجاهد يقول: إن المقصود بهم فقط أهل الكتاب إذ نزلت الآية في يهود بني قريظة، ولكن الأقرب الى الواقع والمقبول منطقاً لأهل القرن الحادي والعشرين، هو تفسير الميسر بأن الآية تحض على الميل الى السلم وتفادي الحروب والموت والدمار. في القرن السادس والسابع الميلادي كانت أدوات ومقومات الحروب العدد الكبير من المقاتلين بأسلحتهم البيضاء من سيوف ورماح ومن رماة للسهام ومن الدواب وبصفة خاصة الخيول.. وفي القرون التاسع عشر والعشرين تطورت الأدوات والمعدات وظهرت الأسلحة النارية الخفيفة والثقيلة، من بنادق ومدافع وعربات بدائية تجرها الخيول ثم تطورت الى عربات ذاتية الدفع مبسطة وبدائية، إضافة الى السفن والقاطرات البخارية، في منتصف القرن العشرين وفي الحرب العالمية الثانية ظهرت الطائرات والقنابل المختلفة حتى القنابل الذرية.. اليوم وفي القرن الحادي والعشرين أصبح ما يوازي (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، هو الأقمار الاصطناعية والطائرات المقاتلة ذات السرعات الفائقة والصواريخ الموجهة بدقة والحاسوب والرادارات المرتبطة بالأقمار الاصطناعية، وتكنلوجيا تشويش الرادارات ووسائل الدفاع الأرضي والجوي والبحري والصواريخ حاملة الرؤوس النووية والسفن والبوارج الحربية والغواصات. وأصبحت إدارة الحروب من غرفة صغيرة تبعد عن مواقع الحروب بآلاف الأميال، وأصبحت مواجهة الجنود بعضهم البعض في أرض المعركة الى زوال، وأصبح الجنود لا ينزلون إلى أرض المعارك إلا بعد حسم الحرب بوسائل متقدمة كما أسلفنا، بعد أن كانت الحروب تحسم بنزول الجنود الى أرض المعركة أولاً.لماذا نتوعد الأعداء ولم نخط خطوة جادة في الإعداد الممكن كما تأمرنا الآية الكريمة.. إذا كان هذا التوعد من قبيل بطولات دون كيشوت في رواية الأسباني ميقيل دي سيرفانتي في القرن السابع عشر، والتي يتوهم فيها دون كيشوت حروباً وبطولات وهمية خيالية لا يمكن تحقيقها، إذا كانت من هذا القبيل، فهذه مصيبة وإذا كان المقصود من الرد الموجع لإسرائيل أعمال ارهابية تستهدف أشخاصاً أو أماكن أو مصالح إسرائيلية، فتصبح المصيبة أكبر إذ أن أي عمل كهذا يمنح إسرائيل وأمريكا فرصة ذهبية وذريعة قوية ظلت تبحث عنها كل منهما، بل تسعيان لها منذ أحداث تدمير برجي التجارة في نيويورك قبل عشرة أعوام، وإدراج اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في العالم وعددها لا يتعدى أصابع اليد الواحدة خاصة بعد التبرير الخطير الذي وضعه أوباما لتجديد وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في العالم، وذلك قبيل أيام قليلة من إعادة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأسبوع الماضي.. ذلك التبرير المطلوب عند تجديد القائمة وهو تهديد الأمن القومي الأمريكي. هذا أخطر تبرير إذ يهيئ الرأي العام الأمريكي والعالمي لقبول أي عمل عسكري أمريكي ضد السودان لدى حدوث أي فعل من السودان يعضد ذلك الزعم والتبرير، وعندها تنال إسرائيل من السودان كل ما تريده وما سعت اليه بكل دهاء ومكر وذكاء، وليعد السودان الى الاستعمار بالنسخة الحديثة كما حدث للعراق عندما أُجبر الرئيس الجسور الشجاع صدام حسين الى ركوب الصعاب والتحدي دون الكيشوتي، حتى زال ومات مقتولاً وزالت أقوى دولة عربية والعالم العربي في مقاعد المتفرجين الفرحين بالزوال لهذا النظام القوي غير المسبوق في العالم العربي، والمهدد الرهيب لإسرائيل.. علينا أن نستفيد من درس العراق عندما قامت إسرائيل بضرب مفاعله الذري - تموز من العام 1982 صمت الرئيس صدام ولم يتحد بل قرر بناء قدراته العسكرية حتى أصبح العراق أقوى دولة عربية بل أقوى دولة في الشرق الأوسط، مما اضطر الأعداء الى رمي كل حبال الشراك حوله بدءاً بمنحه الضوء الأخضر لغزو الكويت ثم إخراجه بالقوة منها، ثم تدبير مسألة حصوله على أسلحة الدمار الشامل وصولاً الى إقناع الرأي العام العالمي بأن العراق يهدد الأمن القومي الأمريكي والعالمي وانتهاءاً بالحرب الشاملة عليه حتى تم القضاء عليه وعلى نظامه القوي. وتركوا العراق في دوامة مؤسفة من الموت والدمار وعدم الاستقرار.. هل نحن الآن أقوى من العراق عسكرياً عندما حاربه العالم؟ هل نظامنا الآن في قوة وتماسك.. نظام حزب البعث بقيادة صدام؟.. هل كانت العراق تعاني من حروب أهلية في معظم أجزائها بخلاف حرب الأكراد في الشمال؟ هل كان الشعب العراقي قبل الحرب يعاني من أي ضائقة معيشية أو نقص في خدمات الصحة والتعليم والاتصالات والمواصلات والطرق والجسور وكل مقومات البنية التحتية؟.. كانت العراق قبل الهجوم عليها أقوى دولة عسكرية في المنطقة، كان معظم العراق في أمن واستقرار كان المواطنون العراقيون ينعمون بدرجة عالية من الرفاهية وتوفر الخدمات الأساسية وغير الأساسية، كان اقتصادها مستقراً وعملتها قوية ثابتة لأكثر من عشرين عاماً، كان التعليم مجانياً في كل مراحله، وكان العلاج راقياً في كل المستشفيات الحكومية ومجاناً، كان الناس في انضباط غير مسبوق وكان أمن المواطن متوفراً ولا تعرف السرقات الصغيرة والكبيرة، ولا يوجد فساد أو إفساد، حتى في كرة القدم، كان منتخبهم الوطني دائماً الأفضل.علينا أن نعي الدروس من غيرنا وعلينا أن نبعد الى الأبد نظرية المؤامرة، وعلينا أن نعيد النظر في كل سياساتنا الداخلية والخارجية، داخلياً يجب أن نعقد مصالحة وطنية ونوقف الحروب تماماً، ونبعد كل المتشددين من مراكز صنع القرار، المرحلة الآن مرحلة إعمال عقل وإبعاد عاطفة، علينا أن ندرك ونستفيد من أن أمريكا لا تريد انهيار السودان وصوملته وسعت بوسائل شتى وما زالت لضمان استقرار السودان، وأمريكا تعلم ونحن نعلم أن السودان الآن معلق بحبل قوي متين تلتقي وتمسك به كل التناقضات والصراعات العلنية والخفية، وهو حبل الأخ الرئيس البشير، نسأل الله له الصحة والعافية إذا انقطع هذا الحبل و(انكسر المرق واتشتت الرصاص) سينقلب السودان الى انهيار الى حين قصير، لكنه مكلف.. فأمريكا وهي تعلم كل ذلك كان في مقدروها القبض على البشير في رحلاته الطويلة، خاصة تلك التي كانت الى الصين العام الماضي. فأمريكا عكس ما يتوقع البعض، تريد السودان مستقراً، ولن تسمح بضياعه وتشظيه خوفاً على انهيار كل الأنظمة في المنطقة. والسودان يشكل الحلقة المهمة بين شمال أفريقيا العربي وجنوبها الزنجي وشرقها في القرن الأفريقي الاستراتيجي للأمن القومي الأمريكي. علينا أن نلعب هذا الكرت المهم بكل حِنكة ودراية وعقلانية وذكاء حتى نُحدث التغيير الإيجابي المطلوب في صياغة السودان ليواكب التحديات، ونحقق لشاعرنا محمد المكي إبراهيم أبياته الخالدة:منَ غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر منَ غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسِير منَ غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة الُمستميت على المبادئ مؤمناً المشرئب الى السماء لينتقي صدر السماء لشعبنا جِيلي أنا..