خبأ الوهج والبريق ذات صبح من أصابيح التشريق.. الثلاثاء 14 ذو الحجة 1433ه الموافق 30 اكتوبر 2012م.. رحل فقيه الإسلام البروفيسور أحمد على الامام بعد حياة حافلة بمجاهدات الدعوة الى الله، حيث بذل الفقيه نفسه وشبابه ورجولته وكهولته ونفحات رحيق العمر في الدعوة الى الله تعالى. بدأ الفقيه حياته الدراسية بنبوغ مبكر، حيث قفز من الصف الثالث الثانوي الى الجامعة مباشرة التي اتمها بتفوق شاهق، وبعدها انطلق في رحلته الأكاديمية والدراسات العليا في موسم هجرة الى الشمال العالمي، وبعد أن تعبت حقائبه من السفر الطويل حط رحاله في جامعة «ادمبره» البريطانية العريقة.. لم يبهره- كمعظم شباب العالم الثالث- عالم «جين مورس» المفعم بهذيان القلب وحسنوات الشعر الذهب المعطرات باللاونود السكوني الأصيل.. وإنما استهوته رائحة الحبر وغبار الكتب فانطلق كخيول الريح الفتية في رحلة أكاديمية صارمة، نال خلالها درجة الماجستير والدكتوراة، ودرجة البروفيسور عبر رسالات نقدية لأطروحات المستشرقين عن الإسلام، وخلال هذه الرحلة الأكاديمية الصارمة، كان قد اتقن اللغة الانجليزية وأصبح يكتبها ويتحدثها كأهلها، كما اتقن لغات أخرى منها اللغة السواحلية وركز جهوده الدعوية في مناطق شرق افريقيا. عفواً ياسادتي في إنني استخدمت لغة العصر في الكتابة عن الإمام الراحل البروفيسور أحمد على الإمام، ولم استخدم لغة ..(مكر مفر مقبل مدبر كجلمود صخر حطه السيل من عل).. فالرجل كان عصرياً وحضارياً الى أبعد الحدود، ولم يكن متزمتاً، وكان ثغره دوماً ينطق بالسلام والابتسام وحلو الكلام، بعد تلك الرحلة الأكاديمية الصارمة عاد من بلاد تموت حيتانها من شدة البرد، وإتجه الى بلاد تموت عصافيرها من شدة الحر.. افريقيا الشابة السمراء التي تهفو الى نسائم القرآن وحمائم الرضوان. إنها ياسادتي رحلة البريق والحقيقة فيما بين مسافة البرد والحر في موسم الهجرة من الشمال العالمي الأشقر الى الجنوب العالمي الأسمر الذي ربما بعدت أرضه بعض الشيء عن السماء والضياء، فاشعل البروفيسور أحمد على الإمام المكان والزمان بمصابيح القرآن. كان الفقيه الفقيد- طيب الله ثراه- رجل القرآن وخادمه وحامله في صدره حفظاً وتفسيراً، فملأ به وقته بالتلاوة والتدبر والتفكر، وامتثل به عملاً وخلقاً، وكان له قصب السبق في القيام بإنشاء المؤسسات التي تخدم القرآن الكريم، فأسس جامعة القرآن الكريم، وكان أول مدير لها، وكان من مؤسسي دار مصحف افريقيا وترأس مجلس أمنائه، كما أسس مجمع الفقه الإسلامي، وأرسى أركانه، ووضع قواعده، وحدد معالمه.. الفقه الإسلامي، فأصبح صرحاً شاهقاً في المبنى والمعنى.. كان طاهراً ونظيفاً ومطيباً دوماً.. وكان رجلاً بفوح القرنفل، ومطيباً بطيبة أهله «آل ضنقل». إنني ياسادتي أشعر بفقد الفقيد مرتين.. الفقد الأول لأنه كان فقد أمة لرجل كان أمة.. والفقد الثاني كان هو الأكيد والشديد لأن الفقيد أحد أبناء مدينتي دنقلا التي أحببتها وأحبتني، كما كان الفقيد أحد أترابي في زمن الصبا.. ذاك الزمن النبيل الذي حملناه مع أشواقنا وسميناه الزمن الجميل. كان منزلهم يجاور منزلنا بل كان على مرمى رصاصة من دارنا، وما كان يفصل بينهما سوى ثلاثة بيوت.. بيت الشيح محمد طاهر.. بيت سيد افندي.. ثم بيت الشيخين عامر يسين وأخيه عبدالقادر يسين.. وكان بيت الفقيد هو بيت والده الشيخ العالم الراحل «على الإمام» إمام جامع دنقلا الكبير وكان يقع بين بيتي الشيخ الجليل على اسماعيل، والد المربي الفاضل الشيخ شاكر علي اسماعيل، وشقيقه عبدالرحمن، الذي زاملني في مدرسة دنقلا الأولية.. وكنا نطلق عليه لقب «أماني».. أما البيت الثاني فكان للشيخ عبدالعال حسن تويه والد المربي الفاضل الراحل احمد عبدالعال، وبما أنه كان يجمعني الجوار مع الفقيد البروفيسور أحمد على الإمام، فكان طبيعياً ونحن في ميع الصبا المبكر أن يأتي إلينا ويلعب معنا في شارعنا الرئيسي في دنقلا، الذي يبدأ من جنوب السوق ويتجه الى شمال المدينة.. حيث بيوت آل «الشروني والرديسي والغندقلبة».. كنا نلعب في صباحات الاجازات بكرة الشراب، وأحياناً بالنفاخة «أم بوالة» الثور التي ننفخها ونربط عنقها ونلعب بها وكان الصبي «أحمد» يلعب معنا وفي المساءات المقمرة كنا نلعب بعض الألعاب التي يسمونها الآن الألعاب البيئية ومنها.. (البيت ده عليك.. كعود وينو وهي اللعبة المعروفة في أواسط السودان بلعبة شليل وينو) وكنا نلعب أيضاً لعبة.. يا اول حلب لب لب.. ولعبة شلغ بلغ، وكان الصبي أحمد لا يمازحنا بنفس طلاقتنا، وإنما كان يتميز علينا بصبابة وقورة استلهمها من وقار والده. هذه هي الصبابة الوقوره التي كان يعيشها الصبي أحمد بيننا، لأنه بالطبع كان ابن الإمام وكان الإمام صديقاً صدوقاً لوالدي أحمد حسن الحميدي، وذلك بحكم الجيرة والمشايعة الى الصلاة في جامع دنقلا الكبير، الذي كنا نؤمه نحن الصغار ومعنا الصبى أحمد في ليلة ختمة القرآن، حيث كان يقدم لنا بعد الختمة الزلابية والعجمية وهي مصنوعة من الدقيق، والسمن البلدي، والسكر، وبعدها نعود الى اللعب قليلاً في شارعنا، وفي معيتنا الصبي أحمد وباقي الصبايا محمد عبدالعال الذي كنا نلقبه ب«ابوعضمه» لأنه كان نحيلاً وتبرز عظام كتفه، وكان يزاملنا في اللعب فتحى محمد اسماعيل، ويعقوب عامر، وابن عمه عبداللطيف عبدالقادر شقيق حامد كنينه، الذي كان يكبرنا سناً بكثير، وكان يلعب معنا أيضاً أحمد حجازي الذي أصبح فيما بعد ضابطاً شرطياً عظيماً، وكان يلعب معنا اسماعيل وابراهيم محمد أحمد الغندقلي، وحينما يغلب علينا التعب والرهق كنا نجلس القرفصاء على ربوة رملية صغيرة تقع بين بيتنا وبيت الشيخ أحمد على الصائع الملقب ب «ابودقن». في سنوات صبابتنا الأولى الحقونا بخلوة الشيخ محمود التي كانت تتوسط سوق دنقلا، كما تقع غرب دكاكين أولاد الأفندي والنزهية بعد ذلك الحقونا بمدرسة السعادة الصغرى، وكان ناظرنا الشيخ أحمد باشكاتب ويعاونه في التدريس الشيخ عبدالغني صالح، الذي أصبح فيما بعد- رحمه الله- شيخ الطريقة الجعفرية بمصر والسودان ومقرها الرئيسي بحي الدراسة بالقاهرة، وكان لها فرع صغير بالسودان في الخرطوم بحرى، ويرأسه الأخ الصديق حسن أحمد يسين، ثم الحقونا بعد ذلك بمدرسة دنقلا الأولية وبعدها تفرقت بنا السبل، فدرس الفتى أحمد على الإمام الأوسط والثانوي خارج مدينة دنقلا. رحم الله الفقيه الفقيد البروفيسور أحمد على الإمام، وجعل الله قبره روضة من رياض الجنة، وأسكنه فسيح رضوانه مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا، وألهم أهله وذويه وأخوانه وتلاميذه وكل محبيه- على امتداد البلاد والوطن العربي والإسلامي وأهل دنقلا الذين أحبوه وأحبهم بصدق وروعة وجمال- فقد كان الفقيه الفقيد البروفيسور أحمد علي الإمام .. أتقى وأشرف الرجال.