ü في كتابه تاريخ الإصلاح في الأزهر يؤرخ الشيخ عبد المتعال الصعيدي لمراحل النهوض والازدهار التي شهدتها مصر في أعقاب سقوط بغداد على أيدي التتار عام 656ه، وبعد أن تصدى المماليك- حكام مصر في ذلك الزمان- لهجمة التتار وأوقفوها عند حدود الشام، وأصبحت بذلك مصر مركز الخلافة الإسلامية بعد بغداد التي هجرها من بقى من بني العباس ملوك بغداد، فجعل من بينهم المماليك خليفة للمسلمين في القاهرة، وجعلوه رمزاً للسلطة الدينية ليستمدوا منه سلطتهم الدنيوية.. فوفد في ذلك الحين إلى مصر كثير من العلماء وراجت سوق العلم، وظهر كثيرٌ من فحول العلماء الذين ضربت شهرتهم الآفاق، كابن حجر العسقلاني والمقريزي والعيني والسخاوي والسيوطي وكثير من أئمة الفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية والتاريخ والفلسفة. ü كان الأزهر حينها يقوم بنصيبه في النهضة العلمية، ويشارك المدارس التي انشأها سلاطين مصر بعده، كالمدرسة الناصرية، والكاملية، والشيخونية، والمؤيدية، والظاهرية التي رعاها المماليك وتخصصت في بعض العلوم، وكان بعض العلماء يؤثرونها بالتدريس لأن بعضها كان يتبنى المذاهب الشافعية أو الحنفية أو المالكية أو الحنبلية، وبعضها أهتم بالحديث أو التفسير على وجه الخصوص، بينما كان الأزهر يتناول جميع العلوم، فتدرس فيه العلوم الدينية والعربية والفلسفة، ويقصده الطلاب على اختلاف مذاهبهم، ولم يكن خاصاً بالطلاب المصريين وحدهم، بل يأتونه من سائر الأقطار الإسلامية. ü كان سقوط دولة المماليك عام 922ه بمثابة إيذان بضعف النهضة العلمية في مصر، التي أصبحت ولاية تابعة للامبراطورية العثمانية، و«انحطت مكانتها بزوال دولتها»- على حد تعبير الشيخ الصعيدي- وسكنت فيها الحركة العلمية، وقل الإقبال على التعليم، لا سيما بعد أن صارت «التركية» لغة الدواوين، فضعفت العربية وعلومها وآدابها، وطغت اللغة العامية، حتى غلبت على لغة الكتابة والتأليف.. ولكن مع ذلك بقى الأزهر وحافظ على مكانته في العالم الإسلامي، لأنه لم يعد غيره موئلاً للعربية وعلومها، وظل حافظاً لعلوم الدين واللغة، وأصبح محل تبجيل وتقديس في سائر الأقطار الإسلامية، وهذا أغرى علماءه ومشايخه وطلابه فجمدوا على ذلك الحال، ولم يعودوا يرون أو ينتبهون لمواضع النقص والتقصير أو ضرورة التجديد، ولهذا السبب بالذات فقد رأى الشيخ عبد المتعال الصعيدي ضرورة إصلاح الأزهر لما «له علينا حق الاهتمام باصلاحه وحق الاهتمام بتدوين تاريخه، ليستعيد بالإصلاح مجده القديم، فيفتح باب الاجتهاد في العلم، ويعود لتخريج العلماء النابغين كحاله الأول» أو كما قال.. ü يروي الشيخ الصعيدي قصة طريفة في معرض استعراضه لأحوال الضعف والتدهور التي أصابت مشيخة الأزهر أوان استيلاء الأتراك على مصر، حين عينت الاستانة أحمد باشا المعروف ب«كور» والياً على مصر، وكان شيخ الأزهر في ذلك الحين هو الشيخ عبد الله الشبراوي، فلما وصل الوالي واستقر بالقلعة، ذهب وفد من علماء الأزهر لتهنئته وفيهم إمام الأزهر الشبراوي، ودار الكلام مع وفد العلماء في مسائل العلم إلى أن دخل في مسائل العلوم الرياضية، فأحجموا عن الكلام فيها، وقالوا لا نعرف هذه العلوم، فتعجب الوالي «كور» لكنه لم يقل شيئاً، إلى أن جاء يوماً قال فيه الباشا للشبراوي، الذي يتردد على القلعة كل جمعة ويخطب في مسجد السراية: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها- كما قيل- «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه». وحاول الشبراوي تأكيد أنها كما سمع معدن العلوم والمعارف، فجادله الوالي بقوله أين هي، وأنتم أعظم علمائها، وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم شيئاً وغاية تحصيلكم «الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد» عنى «بالمعقول» علوم المنطق والتوحيد، و«الوسائل» مثل علم النحو والصرف، و«المقاصد» علوم الرياضة والطبيعة والجغرافيا وما إلى ذلك.. فاعتذر الشيخ الشبراوي بلباقة واعتبر هذه العلوم من «فروض الكفاية» إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأضاف أن أهل الأزهر غالبهم فقراء وهي علوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية، لا تتوفر للأزهر وشيوخه وطلابه. ü المهم أن الشيخ الصعيدي أوضح من خلال تلك القصة حالة التدهور التي بلغها الأزهر مع تولي الأتراك أمر مصر، حتى انفرد بقيادتها لاحقاً محمد علي باشا- 1220ه- وتصرف فيها باستقلال عن مركز الدولة في اسطنبول، وعلى أميته ادرك ببصيرته ما يتهدد المسلمين إذا استمروا في غفلتهم، ولم يأخذوا بالأسباب الكامنة وراء النهضة الأوروبية.. فبذل جهداً جباراً لينهض بالبلاد وليخلع عنها الثوب القديم البالي، فأنشأ المدارس الحديثة على اخلاف أنواعها ودرجاتها وتخصصاتها من طبية إلى هندسية وغيرها، ونهض بالصناعة والزراعة والتجارة، ورفع اسم مصر في الخافقين، لكن مع ذلك لم ينتبه أهل الأزهر، ولم تبعثهم جهود الباشا الكبير على العمل من أجل جعل الأزهر يساير إيقاع النهضة الجديدة، وأخذوا يعيشون في تلك «العزلة المجيدة» بين جدران الجامع العتيق، وربما كان الشيخ حسن العطار هو الاستثناء الوحيد بين شيوخ الأزهر الذي انتبه لأهمية الإصلاح وضرورة مواكبة العصر، فقد كان له كسب من سياحته في الأقطار الإسلامية كبلاد الشام وغيرها، وارتفع بذلك عند أهل الأزهر بعد أن عاد إليهم، كما اتصل بالعلماء الفرنسيين الذين جاؤوا مع الحملة الفرنسية وبحث في سر نهضتهم وقوتهم، بينما قعد غيره من علماء الأزهر. ü كتاب تاريخ إصلاح الأزهر للشيخ عبد المتعال الصعيدي، يضج ويعج بالتفاصيل الكثيرة في مسيرة الأزهر الشريف صعوداً وهبوطاً، ضعفاً وقوة، إهمالاً وعناية، وبأسماء وتواريخ النجوم الزاهرة في سمائه من أمثال الشيخ المراغي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وأسماء وتواريخ من قاوموا الإصلاح وآثروا الإنكفاء من أمثال البشرى، والجيزاوي الذين لم يكن من السهل عليهم التآلف مع النظم والعلوم الحديثة، وتلك معركة طويلة استهلكت حقباً من الزمان، وجهوداً مستمرة من التدافع المتبادل بين طلاب التحديث والإصلاح واساطين المحافظة والجمود، وقد كان للشيخ الصعيدي دوره كذلك في إطار هذا التدافع الذي يمكن رصده بين سطور هذا الكتاب المهم، والسفر الفريد.. إنه عمل يستحق القراءة ومرجعٌ مهمٌ لكل طلاب النهضة العلمية في مصر وما حولها من الأقطار العربية والإسلامية.