بمناسبة اليوم العالمي للمعاق وقفنا في الحلقات السابقة مع الأديب المعاق(عبد الله حامد الأمين) رئيس أدباء السودان حتى منتصف السبعينيات، وهو يصف مقعده المتحرك وعذابات الهبوط والصعود في المطارات الدولية. في هذه الحلقة يصف الإعاقة وعذاباتها في شوارع أم درمان.. نقرأ معه كيف خرج إلى الشارع، وماذا حدث له ومعاناته النفسية، قصصاً من مجتمع لا يرحم: السنوات الأولى: أصابه الشلل قبل أن يكمل تعليمه وهو في سن العشرين:(.... عائداً لتوه من مدرسة لم أكمل فيها تعليمي.. وكنت في مقتبل الصبا الباكر.. وكنت إلى إكماله تواقاً.. ولكن ما أصابني من علة.. أضعفت البدن، حال بيني وبين ما ابتغي مما كنت وطنت له نفسي).. استسلم لصدمة الإعاقة لمدة خمس سنوات، ثم بعد ذلك بدأ الهجوم على الحياة، وسار في رحلة التكيّف مع المرض، وممارسة التفوق على العجز : (خمس سنوات كما ذكرت.. بل أكثر قضيتها في منزلي عند سوق أم درمان وبجوار مكتب البريد الذي يربطها بالعالم، محبس جسمي داخل جدران.. وروحي تحلق في الآفاق وتهفو إلى كل ركن من أركان العالم.) قبل أن يبدأ في اختراق المجتمع والطموح، بدأ بالقراءة وشحذ الخيال، ثم تحركت نوازع التأمل والاستيعاب، فجاءته (أم درمان) طائعة !! (وقليلاً قليلاً تعودت على الشارع . واستمرأت الخروج على المقعد المتحرك يدور في طرقات المدينة، ويحملني إلى مجلس الأصدقاء والمنتديات العامة). طبيعي أن يواجه المضايقات في الشارع العام، كسيح يطاردونهم بعيونهم الجارحة، ثم بالتعليق الجارح تردد خائفاً أول الأمر ثم بدأ يتحدى (ولم يكن الأمر في بدايته سهلاً ، فقط تركت السنوات الخمس في المحبس تأثيراً انطوائياً على النفس، وميلاً إلى الانزواء عن أعين الناس الكثيرين، (والجحيمي عيون الآخرين)، كما يقول سارتر،. وقد كانت تضايقني عيون السابلة وتحاصرني، فلا أملك إلا أن أغمض عيوني، حتى لا أرى هذه العيون التي كانت تنظر بنظرات شتى، منها المشفق، ومنها المندهش، ومنها الفضولي، ومنها الأبله..) يقول إن المقاعد المتحركة كانت نادرة في شوارع أم درمان، ولكن كانت الشوارع تعج بالمقعدين فكرياً وعمي البصيرة . هذه العيون التي كانت تنهش كبرياءه كادت أن تعيده إلى محبسه، ولكنه استطاع في نهاية المطاف أن يتحدى !! صورة المعاناة النفسية كانت مثل .. (كان للشباب الباكر وهو يعاني من قيد الداء وحجر المحبس، أثره الضخم على كل لحظة نفسية، وكل لمحة فكرية (يحكى عن نوادر البسطاء والسذج، ويقول إنها كانت تخفف عليه!! مثل إعرابي من البادية صرخ في صديقه الذي يدفع المقعد المتحرك(.. كفاك خلاص إنت !! خلي صاحبك يركب كمان ).يقول إنهم ضحكوا منه، لأنه كان يعتقد أن المقعد المتحرك لعبة بين أصدقاء في الشارع العام. ويحكي أن أحد الأعراب جاءه وهو يحمل عصا فوق عاتقه، زجره وصاحبه الذي يدفع الكرسي المتحرك: هذا حرام ! فقط في الحج وعند بيت الله يفعل الناس ذلك.. (يقول إنه وصاحبه ضحكا طويلاً ، لأنه لم ير مقعداً متحركاً إلا في الحج)!! في مكان آخر يقتبس من الأساطير التي كان يسمعها من جدته ليلخص قصة حياته : (.. لقد فرضت علىّ الحياة أن أقضي دهراً من عمري حبيس جدران أربعة وأنا بعد في ميعة الصبا.. أحب الحياة لكنها كانت تحب غيري.. وخرجت من محبسي ذات صباح وقد نبتت قوادم الريش في مخيلتي وفي فكري.. طرت مثلما طار جدي- أبحث عن محبوبتي في كل مكان- والتوق والشوق زاد في رحلتي الطويلة.. ولاقيت الصعاب- وجابهت العناء- وجربت كل التجارب والحيل.. وواجهت أهل الحياة المالكين لقشورها لا اللباب وتحديت الصعاب... مثلما واجه شيخي الكبير قوم محبوبته نلت في ذلك الختام مثلما نال.. قائله: وزال العناء وتم الفرح.. الانتصار: هكذا انتصر على نفسه أولاً، وعلى المجتمع ثانياً.. وكان ملاذه الاجتماعي أولاً في الفئة الطيبة من الأدباء والكتاب الذين كانوا يعرفون قدره، اجتمعوا عنده ليخرج معهم وبهم إلى الساحة الاجتماعية الواسعة. كان يدير رابطة «الندوة الأدبية» من سريره بعد ذلك إذا أراد، وظلت «الندوة» تنمو وتزدهر وتخرج إلى الساحات . يحكي عن أولى لحظات الانتصار :(وأذكر مهرجان الندوة الأول، الذي كان لي فيه النصيب الأوفى من التخطيط والتحضير والإعداد حتى تم بنجاح كبير.. كان ذلك قبل إعلان الاستقلال بأشهر قلائل، وكانت صلتي بالناس الذين يشاهدون هذا العمل من التلفزيون وحده، وكان ذلك كافياً، وأنجزت عملي بهذه الطريقة التي ما كان البعض يتوقع لها النجاح، وفي لحظة افتتاح المهرجان كان هناك شريط مسجل يحمل صوتي بالتحية للحاضرين، وهم جمع حاشد وكنت وحيداً لحظتها في بيتي والسعادة تغمرني، وخيالي مشدود للحفل الذي تعبت في إعداده، ولم أتعب في الوصول إليه!!) هكذا أنجز طموحه وكانت ذروة الانتصار في الصرخة التي بها ختم قصته وهي... (وخرجت ... وخرجت .. وخرجت). إما تفسيره النفسي لهذا الانجاز فيشرحه بالقول :(.. جربت البقاء في السرير سنوات وجربت الخروج بعد ذلك سنوات أُخر.. فكان الفرق شاسعاً ً وكان مزاج البدن سابقاً عندي لمزاج النفس، وكان الخروج متصلاً لمزاج النفس، وبلورة لقوة الدفع الذاتية... كنز الروح المدفون، والذي لم يصل إليه بعد طب الطبيب )!! إذن يرى نفسه أنه هزم المستحيل، والمستحيل في عرفه هو ذلك الذي وصفوه في الأدب العربي من قبل (الغول والعنقاء والخل الوفي) وإذا كان الأمر كذلك، فقد هزم الغول وهو المجتمع الإنساني حين «يصرخ صرخة الحق والغضب، وحيث تحركه مثل الإخطبوط داعيات اللاوعي والجنون» إما العنقاء منهل العلم وهو قد أصبح متاحاً للجميع«...ينتهي المستحيل إلى حقيقة، وتستحيل الحقيقة إلى خيال!!! إما المقعد المتحرك فهو المستحيل الثالث وهو الخل الوفي، يقول في وفاء المقعد المتحرك:«.. فكان صاحبي هذا الصامد الصامت وهو الذي أراني العجائب والمستحيلات والذي حملني كما لم يحمل أحد أحداً وخرج بي من ركن ضئيل مهجور إلى مرافئ الفضاء والى دوائر الأضواء في كل مكان.إنه هذا المقعد المتحرك. والذي رأيته دائماً أقوى وأبقى وأحي من كل مقعد ثابت، يراه الناس ثابتاً وما هو بثابت..يضيف الكاتب من عنده المستحيل الرابع، وهو هزيمة الإعاقة «إنه الفكاك من قيد الداء والذي وطنت نفسي على تحقيقه، وقد عانيت ما عانيت حتى كسرت طوق هذا المستحيل، واعتبرت ما كان منه كأن لم يكن، وهزمته ما كان لمثلي أن يهزم مثله ولو أنه ليس في الأرض مستحيل» الخلاصة: هكذا وصلت بنا قصة هذا المعاق الذي هزم المستحيلات إلى الخلاصة النهائية،وهي: إنه بالقراءة والاطلاع والتثقيف هزم صدماته النفسية التي سببها العجز الجسدي، ثم اختار من المجتمع الفئة الطيبة وهم المثقفون مثله من الأدباء والكتاب، ومن خلالهم طمأن نفسه وخرج لمقاومة أنياب المجتمع الحادة ، لينتصر عليه، وقدم بذلك نموذجاً متفوقاً لمعاق مثقف نشط فرض نفسه على العمل العام.