ان كانت كسلا هى عروس الشرق الرائعة الجمال والرقة، فهى ايضاً بوابة السودان الشرقية الشامخة الصامدة التي لم يؤت الوطن الكبير من قبلها فلم تسمح لطامع دخيل بتجاوزها الى عمق البلاد رغم محاولات الاحباش واعتداءات الطليان، وكان امضى اسلحتها هو اهلها الذين قال عنهم الراحل عمر الحاج موسى ان سماحتهم بث ونجدتهم غوث، وكلامهم كله ظريف وعفيف كأنهم يغسلونه قبل التحدث به. اما في معنى اسمها فقد تواترت الاقوال واختلف الرواة، ولكن الارجحية لنسبتها الى اسم فتاة سكنت في سفح جبل التاكا، وكان يغشاها المسافرون ويجدون لديها الماء والطعام والقهوة والراحة والزاد لرواحلهم، وكان هذا المكان هو النواة التى نمت منها دوحة كسلا الوريفة (فتراءى الجمال مزدوج الاشراق) او كما قال احد الشعراء، وهموا كثر، اذ كانت كسلا دائماً لشعراء السودان وادي عبقرهم. وقد كانت كسلا مطمع الاحباش الذين لم ينوا او يكلوا عن محاولاتهم لضم جنة الاشراق الى امبراطوريتهم الى ان شتت شملهم ابكار المهدية من قادة ومجاهدين اثر هزيمة نكراء قضى فيها امبراطورهم يوحنا نفسه، واصبحت كسلا حامية منيعة في دولة السودان المهدوية، ونقطة ارتكاز لها. وعندما اطلت بوادر وارهاصات الحرب العالمة الثانية كانت ايطاليا قد خلقت لنفسها مواطئ اقدام في القرن الافريقي، ومن هناك وثبت غرباً واحتلت مدينة كسلا في العام 1941م، ولكنها سرعان ما هرولت مذعورة تاركة المدينة الباسلة التى صمد اهلها الى ان جاء الهجوم المضاد بواسطة اشاوس قوة دفاع السودان، واثبت اهل كسلا ان سجاياهم الرقيقة تمتزج بها جسارة عنيدة. ومن اهم معالم كسلا التى سارت بذكرها الركبان جبل التاكا الذي تغنى به الشعراء والمطربون، وجاء ذكره في اشعار المادحين الدينية، ولا غرو فهو يحتضن في سفحه مدافن كثير من السادة الميرغنية واهمها ضريح السيد الحسن (سيدي الحسن) والذي رمزت له بأضرحة رمزية في عدد كبير من مدن السودان. ومن الجبل ينبثق ينبوع (توتيل) من مكان وعر ليس من السهل الوصول اليه، ويحدثك اهل كسلا بيقين اشبه بالايمان الديني بأن الذي يشرب من ماء نبعهم هذا ولو رشفة واحدة فانه لابد ان يعود الى كسلا مرة اخرى وان طال الزمن! ومن اهم المعالم في كسلا معلم يحبونه ويتباهون به وفي ذات الوقت يرهبونه، وفي كل عام يتوجسون خيفة من ان يباغتهم بعربدة تكبدهم من الخسائر أفدحها، وهذا هو نهر (القاش) الذي اطلق عليه احد المهندسين الانجليز اسم (النهر المجنون). ويسميه اهالي المنطقة (أوقاش) ، ومعنى الكلمة هو (الهائج) او (المتمرد)، ورغم عربدته فإانه يحمل لأهل كسلا من الخيرات والنعم احلاها واوفرها كالفواكه المتنوعة والخضروات المختلفة، والتى تعد اليوم من بين صادرات السودان بعد ان حلت الآلة محل السواقي التقليدية القديمة. ونختتم حديثنا هذا باسطورة عذبة يحدثك عنها اهل كسلا وكأنها حقيقة لا يأتيها الباطل من خلفها او امامها، وفحواها ان هناك شجرة اكسير في مكان ما بجبلهم الاشم يحرسها ثعبان ضخم ونمر شرس، واذا غمست ورقة من اوراقها تحولت الى ذهب خالص! ويترائى لى ان شجرة الاكسير المزعومة هى كسلا الوريفة نفسها.. والمحروسة بالطيبة والرقة والوداعة والجمال والكرم.. والمحروسة بالاشاوس الصناديد ضد الدخلاء من الاعداء الطامعين والذين لابد ان يجدوا في انتظارهم سموم الافاعي وشراسة النمور!