صديقي منذ الصغر (مولانا فقراي) تفتحت مسامعنا سوياً في أرض المحنة كسلا الخضار.. لعبنا على شواطئ القاش، هذا المارد الموسمي، رسمنا على أذقة وأحياء الميرغنية تحديداً حي الجسر لوحة الوفاء والتماسك منذ ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.. أطال الله في الأعمار وزادنا عافية، في زمن أحسبه باهت العلاقات إلا من رحم ربي.. فأشرعة التواصل أصابها الخمول والإعياء.. وحقاً كلما ألتقينا لا يكون حدثينا وتآنسنا على هموم الدنيا ومضنيات زمن الإنشغال.. بقدر ما هي (بانوراما) لتلك الفترة العذبة الخالية من فجوة العلاقات أياً كانت أسرية أو غيرها.. نتحدث عن مواقف الطفولة ونحن في بدايات سلم التعليم الأولى، نردد بعض المواقف بتنسيق مرتب ومتتالي، ويدهشني مولانا فقراي بذاكره نشطة لحالات قد تكون اندثرت وتلاشت من ذاكرتي، فأجد نفسي في دوامتها بشيء من الإطراق تصاحبها ضحكات من العمق. حقاً العرفان الذي إلتمسته في هذا الإنسان الأصيل لم يكن وليد اللحظة، إنه عمر بحاله بدأ منذ عام 1963م ومازال قوياً يصارع الأجيال برقته ونظافته،لا تعتريه مخجلات المدن الحديثة عبر العلاقات (الذاتية) التي تتحول بين الفينة والأخرى إلى نكرة وخذلان وتحديد مواقف.. لا يتصدع وإن طالت بنا سنين الغياب في زمان ولى.. دائماً أبحث عنه في وجداني، وأنخر له من عود الصندل عطر الإمتنان، وأضع على رأسه قبعة اليوبيل الذهبي لعلاقتنا، تمشياً مع احتمالات التلفزيون القومي هذه الأيام.. وأذكر أول لقائي بمولانا فقراي تحديداً يوليو 1963م بمدرسة الميرغنية الغربية الابتدائية، ومنذ ذلك الحين زرعنا شتلة شجرة الصداقة العامرة، فنحن بها نمشي سوياً لا نكذب على الزمن ولا هو كاذب علينا، مساحات الصدق والإخلاص منذ نعومة الأظافر صنعت في دواخلنا الإنجذاب المطلق، وأتاحت لنا قدراً عالياً من التصافي لدرجة أن مضنيات المجتمعات الحديثة ليس لها وجود في محاورنا، لأننا جئنا بقدر التوافق العاطفي الذي لفظه كثير من الأحبة والأقرباء في زحمة العصر، وأي عصر هذا الذي باع نسمة الفرح الداخلي وقضى تماماً على التواصل الحسي والوجداني، وأصبحت العلاقات تستمد بريقها من ماضي الذكريات، وأنا ورفيقي قد تشربنا من ذاك النبع القديم، فكلما التقينا تغذينا من ذلك النهر الذي غطى مجراه غاضباً متأسفاً لبعد الأحبة.. أقول بقدر هذه العلاقة بهذا الإنسان الوردي.. هناك شخص آخر له مكانة خاصة.. تلاقينا في ثمانينات القرن الماضي فهو إنسان شفيف يتحدث بحذر تلازمه المفردات الجزلى، دقيق في مواعيده، معطاء في رسائله، متشبع بثقافة الريف، له مخزون عاطفي لا مثل له.. فكلما التقينا يحدثني بألم محدق عن الفوارق الاجتماعية ومحارب التواصل الذي فقد خصائصه وأصبحت قيمة العلاقات مبنية على ثوابت الماديات والمظاهر الخداعة.. وانعدام التلاقي الأسري من داخل البيوتات، والسؤال عن بت العم هل تزوجت من ابن عمها، مدلولات ضُرب عليها وأصبحت شيئاً من كان وليس أخواتها، يتحدث عن التسامح والدموع والإشفاق، والحنان لا يبارحني إلا هو باكي وأنا بقدره. أقول مثل هذا النموذج قد بدأ يغيب من الساحة، وهنا تذكرت له مقولة حين قال لي عندما نبعد من النساء المشلخات أقلب الصحفة.. فهن جيل لا يتكرر، وهن دفء الخواطر والحنان الذي نشأنا عليه، وأهدانا طريق الإمتنان والتماسك. قبل أيام قلائل.. أرسل لي هذا الصديق رسالة قصيرة عبر الموبايل وهو في ديار الغربة.. جاءت على النحو. أحوال الأهل فقدت معاني الريده.. المال والوجوه صبحت حكاية جديدة.. يا حليل العزاز الحي منهم بلسانو غلبوا بعيده.. معقول الأصول ترجع تنادى غريقه!!. هنا توقف عندي نبض المقارنات فصرخت بألم لأنها حقيقة مجسدة بكل ما فيها من تفاصيل عبر هذا المسدار وهو في ديار الغربة.. انتظرت قليلاً ثم اتصلت بصديقي صديق الطفولة مولانا فقراي.. فوجدت جواله مشغولاً لفترة.. حاولت مراراً فكان على حاله.. لأنني كنت أرغب تماماً في تلك اللحظة بالذات أن يحدثني عن ماضي الذكريات، فأنت رجل تسعدني دائماً.. فتعال نحتفل بيوبلنا الذهبي.. رجائي الاتصال الآن فقد تكون ناسياً رغم قوة الذاكرة لك.. ما شاء الله. تعال نتجاذب أطراف الحديث في شكل الحياة التي دائماً ما تناديها بأنها لحظات من الخواطر الصادقة لا تكذب عليها لتكذب عليك، وأنا حاولت التعنت انشغلت بها وانشغلت بك.. فهذه هي أم اليأس ودولاب الإنشغال. تعال نتحدث كثيراً عن الوفاء والعرفان، لأنني أحسه قد سجل غياباً كثيراً، ولا أريد أن أقول إنه رحل بدون عودة، فالحياة ربما يزورها قطار العودة.. فتظهر الحياة بمعناها المرغوب.. رجائي الاتصال أيها الرائع في زمن الاشفاق. عضو اتحاد الصحفيين السودانيين