تلقيت رسالةً من الأستاذ محجوب عثمان محمد، تسلمتُها عن طريق إبنه المهندس (وائل)، وقد أخبرني الإبن أن الأب طريح الفراش الآن بسبب سقوطه المفاجئ في أحد (المنهولات) فاغرة الفم بالخرطوم، تلتهم السائرين الآمنين، والسلطات المحلية تنظر ولا ترى كأنما هي تتابع من خلف حجاب سميك. هزّني الموقف السلبي للمواطنين إزاء ما واجه الأستاذ محجوب، وهو معلّم قديم، ربّما كان قد درّس تلامذته بيت الشعر العربي الشهير: ولقد مررتُ على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحبُ الفتاةُ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتُوا ومن المؤكّد أنّه استحضر ذلك البيت كما أستحضرتُه حال قراءتي ل (عرضحال) الأستاذ محجوب الذي نقدمه للناس والمسؤولين.. عسى ولعل.. أين المروءة في ظل القانون بدأت أسير من المدخل الشمالي لكبري الحرية متجهاً شرقاً بجانب حائط داخلية حسيب والرازي، وقبل وصولنا شارع عبد المنعم وجدتُ نفسي داخل منهول المجري، وكانت المفاجأة مذهلةً، وفقدتُ إدراكي لحظةً ثم جمعتُ قواي لأجد قدمي في وحل من الطين، والدم يسيل من كف يدي اليمنى، والألم يعتصرني من أسفل جسمي. وأنا في هذه الحالة، والمواطنون يسيرون بجانبي والعربات الصغيرة والبصات يشاهدون هذا الموقف. ظللتُ أنتظرُ من يساعدني ولكن.. ثم تحاملتُ على نفسي وأخرجت جسدي من المنهول، ورقدتُ بجانبه ممسكاً يدي اليمنى على فخذي الأيمن.. ويدي اليسرى على ساقي اليسرى، والدمُ يسيل من جرحي، والزمن يمضي ثقيلاً ببطء، وقلت في نفسي ماذا جرى لهذا المواطن السوداني الذي يُفخرُ به في كل مجال؟ ورفعتُ وجهي إلى الله «لا حول ولا قوة بالله».. إستجاب ربي لدعائي فوقف رجل من الريف وتشجع مواطن آخر، يساعداني على الوقوف ممسكاً بالحائط متدرّجاً نحو مكتب ولدي وهو قريب من مكان الحادث، ذهب بي إلى حوادث الخرطوم، وكانت النتيجة بعد الفحوصات تمزّق بالفخذ الأيمن ورضوض بالجسم وكدمات وجرح بالساق الأيسر واليد اليمنى، وحمد الله على السلامة من الكسر. وسألت من كان بحوادث الخرطوم كيف تفسر موقف المواطنين وأنا في مثل هذه الحالة؟ فقال:« يخشى المواطن جرجرة الشرطة والمواطن مشغول بهمومه العصيّة في هذا الزمن العاصي».. وهنا لا أنسى رجل الريف وزميله عندما شكرتهما على مروءتهما، قال لي أحدهما: (اشتكي) فقلت له :(إلى الله أشكو ألمي وحزني)، وأهمس في أذن الشؤون الهندسية بإغلاق كل منهول مفتوح في مجاري ولاية الخرطوم، حتى لا يسقط طفل أو شيخ هرم أو قزم في منهول عمقه أكثرمن متر به ماء راكد وطين متعفن، ولا يجد من له مروءة لينقذه من موت محقّق، ولا يُعرف له أثر حتى تفوح رائحة تحلّله. وأهمس في مواطن المدينة أن يراجع نفسه، وليكن وثّاباً أخا شجاعةٍ ومروءةٍ ليساعد وينقذ أخاه من الضرر والهلاك، وهنا أشير إلى أن منظري ومظهري أنيق الملبس -جلابية ناصعة البياض وعمامة كبيرة - فلا يوحي شكلي بغير ذلك، من سكر أو جنون ليمنع الناس من مساعدتي، ومازال الشعب السوداني أصيلاً في معدنه.