إن أهل الاسلام يتأنقون في العبادات مثلما يتأنق أهل الباطل في الشهوات.. بل أكثر مما يتأنق هؤلاء في الشهوات والنزوات والصبوات.. ولو كان أهل الباطل يتأنقون في المباحات.. في المأكل والمشرب والمركب والمسكن والمنكح.. لسبقهم أهل الإسلام وبزوهم.. لأن أهل الاسلام لا يتأنقون حتى في المباحات. وسفر الزهد مليء ومشحون ومحشو حشواً بالطرائف والرقائق واللطائف. رؤي أحد الزهاد العباد يتناول طعاماً قد تغيرت رائحته فقيل له كيف تأكل هذا؟ أما تأجمه؟ أي لا تعافه؟ فقال إذاً ادعه حتى لا آجمه!! يقول إذًا أدعه حتى أجوع واضطر إلى أكله اضطراراً!! ولعمري هذا تأنق في المأكل يفوق تأنق الذي يمد سماطه أمامه حتى لا يتعرف على أصنافه في طرفه البعيد عنه.. ويقدمون له الأصناف بترتيب وبمقادير فاذا قام عن المائدة وجد انه لم يذق ربع الأصناف التي أُعدت له. إن لأهل الباطل مواسم للتأنق يتوغلون ويلفون فيها في المطاعم والمشارب والملابس والمراكب حتى تتحول جميعها إلى مآتم ومفارم ومعاصي. وإن لأهل الإسلام مواسم للتأنق في العبادات لا يشاركهم فيها أحد. وها هو رمضان على الأبواب وهو أكبر هذه المواسم على الإطلاق. إن مكانة رمضان وعظمته واحتلاله هذه المكانة السامقة في مواسم العبادات ليس لأن الناس يقبلون على العبادات في رمضان.. لا.. كلا وحاشا.. بل لأن العبادات هي التي تقبل على العباد والزهاد في رمضان. رمضان هو شهر الصوم.. لأن الصوم فيه فريضة والعبادات الأخرى في رمضان نوافل.. فلا المكتوبة.. لذلك جاء في الأثر من صام رمضان ايماناً واحتساباً غُفِر له من ذنبه ما تقدم.. ورمضان هو شهر الصلاة تقبل الصلاة على المصلين وهي أيسر ما تكون.. بل أن المصلين ينتظرونها ويحسبون دقائها شوقاً وفرحاً بها. ورمضان هو شهر القيام.. والقيام سنة نبوية كادت أن تكون فريضة.. صلاها النبي صلى الله عليه وسلم مرة في جماعة فإذا كان العام المقبل صلاها وحده وأمر المسلمين بأن يصلي كل واحد منهم في بيته خشية أن تفرض عليهم فلا يطيقونها.. ورمضان هو شهر القرآن.. فيه أُنْزِّل إلى السماء الدنيا.. ثم نجم سنوات الوحي وكان جبريل يراجع النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في رمضان فلما كانت السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم راجعه مرتين.. ورمضان هو شهر الصدقة.. وشهر البر والانفاق على الأقارب والأهل والفقراء والمساكين وذوي الحاجات وفي الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيراجعه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة. وجاء في كتاب الله سبحانه وتعالى «الحج أشهر معلومات» فالحج لا علاقة له بشهر رمضان.. ولكن الحج يتطلع إلى رمضان مثلما تفعل سائر العبادات.. جاء في الحديث «عمرة في رمضان تعدل حجة». فالمعتمر في رمضان أجره وثوابه كالحاج سواءً بسواء. أما وان رمضان هو شهر الفتوحات والإنتصارات. وذلك أن النصر يصنع في رمضان.. ولم لا.. والله يقول في محكم تنزيله مخاطباً عباده المؤمنين: (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين). والملائكة تتميز على هؤلاء المجاهدين بأن الملائكة لاتأكل ولا تشرب ولا تأتي النساء ولا تعصي الله أبداً، وهؤلا في شهر رمضان يقتربون كثيراً من هذه الصفات.. ويتفوقون على الملائكة بأنهم يفعلون ذلك اختياراً والملائكة تفعله اضطراراً.. فيقبل النصر الفتح عليهم في حين أنهم يقبلون على الله دون سواه.. ويطمعون في الشهادة أكثر مما يطمعون في النصر والفوز والغلبة على الأعداء!! وها هو عبد الله بن جحش يوم أُحد يقسم على الله أن يقتل في المعركة وتجدع أنفه ويمثل به حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بهذه الحالة فيسأله ربه: يا عبدي فيم فعل كل هذا بك؟ فيقول: فيك يا رب!! وربما كان أقلهم وأدناهم مرتبة من تستوي عنده طرفا المعركة.. النصر أو الشهادة. ورمضان هو شهر الصَّبر. وجاء في الحديث: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل وأن أحد سابه أو شاتمه فليقل إني صائم. والعجيب والمدهش هو أن هذا هو الموضع الوحيد الذي جاز للصائم أن يفشي فيه سر صومه.. لأن الصوم من العبادات التي اختص الله سبحانه وتعالى بها نفسه. جاء في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له- إلا الصوم فإنه لي- وأنا أُجزي به. وإفشاء الصوم عُدّ عند أهل المعرفة بالله من الرياء ومن التباهي.. والمسكين يظهر أنه يتباهى على أقرانه من الخلق وما درى أنه يتباهى على الله جلَّ جلاله الذي هداه إلى الصوم ويسره له ثم يجزيه به الجنة. ومن كمال التأنق في الصوم ذاته ما أورده الإمام الغزالي عند ما قال الصوم ثلاث مراتب. صوم العموم.. وهو الإمتناع عن شهوتي البطن والفرج. وهو أدنى مراتب الصوم.ثم صوم الخصوص وهو كف الجوارح عن الآثام السمع والبصر واليد والرجل واللسان وسائر الجوارح.وأخيراً صوم خصوص الخصوص وهو- صرف القلب عن الهِمم الدِّنية والأعراض عما سوى الله بالكلية.كيف تتصور هذه الدرجة والرتبة من الصوم؟ إن الصوم إذًا هو أقصر الطرق إلى العبودية، والتذلل لله سبحانه وتعالى. إلا أن أعلى مراتب الإنسانية وأسماها هي مرتبة العبودية والتذلل والضراعة لله.. لذلك فإن من كان عبداً لله حقاً حقاً.. كان سيداً من سادات الكون.