وما زلت في صالون إذاعة البيت السوداني.. وما زالت أباريق الشاي والقهوة وأقداح الضيافة.. تروح وتجي.. بكفوف أميرة الضيافة.. وعطر الصالون لمياء متوكل.. وما زلنا نعطي في اهتمام وانتباه.. عيوننا.. وقلوبنا.. وكل عقولنا للضيف المترف المثقف البديع والرفيع.. الباحث «الجاد جداً» الرصين جداً الواثق من معلوماته جداً.. ميرغني ديشاب.. يسوقنا أمامه في رفق في دروب الوطن الصعبة.. يجتاز بنا المنعطفات الخطرة يعبر بنا المعابر الوعرة.. والوطن يتشكل بعد ملحمة كرري.. يتراص طوبة طوبة.. حتى يرفرف علم الوطن معلناً الاستقلال عام 56.. يدهشني حد الجنون.. ديشاب.. في سرده ذاك الرهيب.. يدهشني وأنا أعلم عبره إن هذا الاستقلال.. لم تصنعه بندقية واحدة.. ولم تضع في ديباجة علمه طلقة واحدة.. فقد كان استقلالاً صنعه الشعب بعد أن «حقن» الخليل وأضرابه واصدقاؤه.. وأقرانه.. ورفاقه حقنوا هذا الشعب بأوصال المقاومة.. وبذروا في أرض صدور أفراده بذور الوطنية.. لتزهر أزهاراً وثماراً واستقلالاً.. من وحي تلك المسامرة.. وذاك اللقاء الاذاعي البديع.. وديشاب يتدفق معلومة وأحداثاً.. ينشق عقلي بل يضيء عقلي بسؤال مزلزل ومجلجل.. من الذي صنع استقلال السودان.. ولماذا في ذكراه أبداً نفرح فرحاً خجولاً بائساً وهزيلاً.. ثم لماذا نشارك أفراح و «إجازة» رأس السنة «الاستقلال» في عيده العظيم.. ثم أعود إلى مراجعة التاريخ.. تاريخ الشعوب.. تاريخ الاستقلال.. ثم «أجرد» وقائع استقلال البلاد التي أعرف.. وتنهض الأسئلة.. لماذا تجتاح بعض الشعوب إعصار وأمطار أفراح معربدة هائجة هائلة.. عند كل ذكرى استقلال.. لبلادها.. وتجيبني صفحات التاريخ.. لتقول إن أي استقلال لأي بلد.. عندما يتحقق بالمعارك والمواقع.. عندما يكون مهره.. الدماء والأحداث والأشلاء.. عندما تكون شجرته قد أثمرت بعد أن ارتوت بدماء أبناء أوطانها عندما يكون الاستقلال قد حدث وانحدر من رحم المعاناة والدم والدموع والألم.. يكون الاحتفال بذكراه صاخباً ومدوياً.. راجعوا احتفالات الجزائر بذكرى يوم استقلالها.. وبأعياد استقلالها.. تضج الدنيا بروعة الأهازيج وتميد الأرض بصخب الأناشيد فقد كان الثمن باهظاً.. والفاتورة نازفة وراعفة.. وهي تسجل بالدماء أسماء مليون ونصف المليون شهيد.. وكذا ذكرى استقلال فيتنام.. الذي تحقق بعد النصر الساحق والمعركة الهائلة الدموية في «بيان ديان فو» ثم يأتي استقلالنا الذي زور فيه «البعض» التاريخ في تزييف للحقائق وطمس متعمد للمواقف والمواقع.. بالله عليكم.. راجعوا الصور.. وتابعوا البرامج.. وانصتوا للخطباء.. عند ذكرى كل استقلال.. تأتي بل تنهمر الأسماء كالأمطار.. اسماء مكرورة مفروضة علينا وكأنها الحق لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من أمامها.. وغياب تام للذين صنعوا الاستقلال الحقيقي.. وهم الخليل ورفاقه.. الذين كانوا شوكة سامة في خاصرة الانجليز.. بالكلمة والأغنية والمقالة والحرف.. كانوا الاعداء والأهداف المرصودين تماماً لقلم المخابرات.. وللأسف.. وفي أكبر مغالطة للتاريخ.. يتصدر بل يجلس في مقدمة «كراسي» الاحتفال بذكرى «أي يوم للاستقلال» أصدقاء صمويل عطيه وتتصدر الصحف صور الذين كانوا يحجون إلى لندن.. بل حجوا مرتين على الأقل.. مرة بالتهنئة لجلوس العرش.. ومرة للتهنئة بانتصار الحلفاء..