ü «كتلوك.. ولا جوك جوك» هو المثل المعبر عن أحوال الناس في بلادي هذه الأيام، ومنذ أن أعلنت الحكومة عزمها على ما يسمى «برفع الدعم عن المحروقات» وفي مقدمتها البنزين ثم يتلوه الجازولين وغاز الطبيخ بشكل تدريجي حسب ما أعلن.. فالقلق يستبد بالناس جراء هذا الإعلان و«حملة العلاقات العامة» التي تحاول الحكومة عبرها أن تهييء شعبها لهذه الإجراءات التي تعلم قسوتها، ليس فقط على الزيادات المتوقعة على السلع المذكورة- المحروقات- وإنما لقسوة «الحريق الشامل» الذي سيطال جميع أطراف السوق والسلع الضرورية، حريق بدأت ألسنته تمتد وتنتشر حتى قبل تطبيق الزيادات المرتقبة، والتي ينتظر وزير المالية صدورها من مجلس الوزراء في أي وقت ولا يعلم- حتى هو- التوقيت المحدد لصدور القرار، كما ذكر في حديث للزميلة «السوداني» يوم الخميس الماضي. ü في مواجهة حالة «كتلوك.. ولا جوك جوك» هذه أطلقت الجمعية السودانية لحماية المستهلك حملتها الجديدة المعنونة «أمسك قرشك» تكملة لحملة العام الماضي الموسومة «الغالي متروك»، كنوع من «المقاومة السلبية» للغلاء غض النظر من المسؤول عن أو المتسبب في هذا الغلاء، الحكومة أو التجار. وقد صادفت تلك الحملة نجاحاً ملحوظاً كما أشرنا في «إضاءة» الخميس.. لكن حملة «أمسك قرشك» تحتاج لموجِّهات تجعل منها فعلاً مؤثراً يضطر أصحاب القرار لإعادة حساباتهم، وإذا كانت الجمعية قد قصدت بحملتها مخاطبة المواطن المستهلك فيجب أن يوجه هذا المواطن إلى مواطن الضعف أو التبذير في عاداته الاستهلاكية المتوارثة التي تستهلك «قروشه» ودخله المحدود، والتي بالضرورة أن تبدأ بمقاومة الصرف على المحروقات غير الضرورية وفي مقدمتها البنزين الذي سيرتفع سعره بشكل كبير في إطار إجراءات «رفع الدعم» التي تتحدث عنها الحكومة وتشكو منها لطوب الأرض وللصحافة والصحافيين. ü وزير المالية الأستاذ علي محمود في لقائه مع مجموعة من رؤساء التحرير وكتاب الأعمدة يوم الأربعاء الماضي قدم أرقاماً مُحزنة «تحنن قلب الكافر» على الحكومة.. فقد قال وزير المالية: إن برميل الوقود يكلف الدولة حالياً (146) دولاراً ويباع للمواطن بما يعادل (49) جنيهاً- أي أن الحكومة المسكينة تخسر في كل برميل (95) جنيهاً.. يا حرام- وإن جالون البنزين يكلف (31) جنيهاً ويباع بإثني عشر جنيهاً- أي أنها تخسر في الجالون الواحد نحو (19) جنيهاً- وإن جالون الجازولين يكلفها (27) جنيهاً ويباع ب(8) جنيهات- أي أنها تخسر في كل جالون (19) جنيهاً أيضاً- وإن أسطوانة الغاز تكلفها (91) جنيهاً وتباع ب(15 أو 20) جنيهاً- يعني «بالميت» تخسر (79) جنيهاً في الأسطوانة الواحدة!!! وجمع الوزير كل ذلك وضرَّبه ليبلغ الزملاء الصحافيين والكتاب بأن: الدولة تدعم الوقود ب(27) مليار جنيه.. بالتمام والكمال. وأن ذلك يشكل «عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد السوداني ويكبل حركته». ü بصراحة، شكلت لديّ هذه الأرقام صدمة كبيرة، خصوصاً عندما نقرأ ونسمع لمحللين وخبراء اقتصاديين ينفون «حكاية الدعم الحكومي للمحروقات من أصلها» ويقدمون معلومات مفادها أنه لا يوجد دعم وإنما هي أرقام افتراضية تقدمها الوزارة لتبرر رفع أسعار المحروقات حتى تمول الإنفاق الحكومي، فيجد من يتوخى الموضوعية- من أمثالنا- نفسه في حيرة من أمره، هل يصدق المالية ووزيرها أم الخبراء العالمين ببواطن الأمور، أم أن هؤلاء الخبراء مجرد معارضين متآمرين يريدون تشويه سمعة الحكومة وتحريض الشعب على إجراءاتها المرتقبة؟! ü وفي هذه الحالة- حالة «الغلاط» التي أصبحنا نحن المراقبين ضحايا لها- أقترح عقد ندوة أو ورشة ل«المكاشفة والمواجهة» بين السيد الوزير وأركان حربه وبين الخبراء الاقتصاديين والماليين تكون مذاعة ومتلفزة، تطرح فيها الأرقام بالمستندات الموثقة حتى نقف على الحقائق المجردة ويعرف المواطن «كوعه من بوعه»، سواء كان بالنسبة للأسعار الحقيقية ونسبة «الدعم» المفترض أو بالنسبة لما تستهلكه الحكومة من هذا «الدعم» على أجهزتها الإدارية والدستورية والسيادية.. وبهذه المكاشفة والمواجهة تكون «الموية قد كضبت الغطاس» وحسم الجدل و«الغلاط». ü أما وإنه ليس من المتوقع أن تقدم الحكومة على إقامة ورشة كهذه، فإنه لا مجال أمامنا وأمام جمعية حماية المستهلك إلا أن يتواصل العمل في حملتي «الغالي متروك.. وأمسك قرشك» لتحمي المواطن من نفسه و«تهديه عيوبه» وتنبهه لها إذا لم يكن في مقدورها- وهذا طبيعي- أن تحميه من إجراءات الحكومة أو جشع التجار، وفي ذلك بعض معاني المقاومة الشعبية. وبما أن البنزين هو أول مستهدفات الزيادة المرتقبة- بحجة غريبة هي أن كل من لديه سيارة يصنف في خانة الأغنياء والقادرين- دون النظر لأثر هذه السلعة في حركة البضائع والنقل على العموم، فإن على أصحاب العربات أن يعمدوا إلى توقيف حركة عرباتهم والاستغناء عنها باللجوء إلى المواصلات العامة، وتحريكها فقط للضرورات أي تحويلها إلى «عربات إسعاف» للمرضى في بيوتهم أو للحاق بجنازة طارئة منتصف الليل أو أن تتفق كل مجموعة من الجيران على استخدام سيارة أحدهم بالتناوب للوصول إلى أعمالهم، انطلاقاً من نظرية «الغالي متروك.. وأمسك قرشك». وبهذا يوفرون على الحكومة «الشاكية لطوب الأرض» من ثقل «شيلة الدعم الشايلاها وناقحها بيها طار المواطن» فرصة التخفف من هذا العبء الثقيل، ووفروا على أنفسهم بعض الأضرار المترتبة على شراء «الغالي» إلا للضرورة، لأنه في هذه الحالة لن يشتروا منه إلا القليل جالونين أو ثلاثة في الأسبوع لزوم «الضرورات القصوى». ü وبهذا تصبح الحكومة، التي هي المشتري الأساسي للبنزين خدمة لمنسوبيها (مجاناً بالكروت) ما تقدمه من «دعم» هو دعم لنفسها وليس للمواطن المستغني عن البنزين، «تبرد أضان المواطن» من نقة الدعم هذه ويصبح «زيت الحكومة- أو بنزينها- في بيتها» وهي تستطيع أن تدبر ذلك بالضرائب والرسوم والإتاوات المتنوعة لتمول مطلوبات جهازها المتضخم من المخصصات والمحروقات.. ويا دار ما دخلك شر!