لست أدري لماذا تذكرت رائعة صالح ود عبد السيد «دمع نازل كالمزن في الهملان»، وقيادات من المسيرية وقليل من أهل كردفان يودعون الراحل حامد محمد الفقير الجبوري بمرقده الأبدي أم درمان مقبرة الشيخ حمد النيل... تذكرت بأسى وفراسة وشدة أهلنا المسيرية حينما تنوخ كلاكل الدهر ومصائبه عليهم، وكيف يصمدون ولا ينكسرون.. وكيف أنه برزية موت الجبوري قد كان الفراق شاقاً، وانتاب الجميع الحزن وهطلت الدموع وغسلت الأكباد المجروحة لفراق رجل يحسب ضمن القلائل من حكماء هذه البلاد.. في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، نشب نزاع دامٍ بين بطون قبيلة المسيرية.. وراح ضحية القتال العشرات.. وكان قرار الراحل اللواء الزبير محمد صالح أن تنهض لجنة لتجفيف الدم المراق.. وتتعهد الفرقاء بالصلح ولم الشمل وجمع الصف.. وتلك كانت أولى علاقتي برموز وقيادات في قامة حامد الجبوري وحسن صباحي والراحل محمود ساعة والخير الفهيم ونجوم أخرى في فضاء المنطقة وبراح السودان الكبير.. عند العم حامد محمد الفقير الجبوري (منطق) فلسفة الحكمة والقوة.. تشتد الخلافات ويشتجر الناس ويختصم أبناء العمومة ويجلس (عم حامد) صامتاً ينظر للأرض في تواضع غير مصنوع، وينهض فجأة بقامته القصيرة وجلبابه ناصع البياض يضرب الأمثال ويحكي القصص والحكايات ويغمز بعض المتطرفين وتضج القاعة بالضحك في لحظة الغضب، ويمضي في خبرة حكيم ماهر (يفك) عقدة الحديث حتى يبلغ مبتغاه في إصلاح ما بين الناس.. لم يكتب في تاريخ حامد الجبوري فشل في مهمة صلح أسندت إليه، تجاوز حدود ديار المسيرية وجاب أرض السودان شرقاً وغرباً في الإصلاح بين الناس الذين يشتجرون ويختصمون، فكيف لاتنزل الدمعات من مقل الرجال كالمزن يوم السبت الماضي والبلاد تودع الجبوري الذي نشأ في بيت من المسيرية اشتهر بالعلم والثقافة والحكمة والمال وإرث السلطة منذ القدم، فالمعدن النفيس يبقى خالداً، والناس بالعروض مستورين.. دخل الجبوري البرلمان من بوابة تمثيل كردفان، وكتب اسمه في سجل البرلمانيين الذين خلدتهم صحائف التاريخ.. ممن جاؤا ممثلين لدوائرهم وليسوا ممثلين بها.. عف اللسان ثقيل الخطى عند المغنم.. خفيف سريع السير عند التضحيات والمكاره.. يدخر علاقته بالرجال (ليوم الكريهة).. دموع الخير الفهيم المكي تختلط بدموع الأمير إسماعيل محمد يوسف والبروفيسور عبدالباسط سعيد يتلقى العزاء من الشاب عمر محمد الفقير الجبوري النائب البرلماني السابق وأحد قيادات المؤتمر الوطني التي تنتظرها برحيل الجبوري مهام عسيرة ومصاعب، وأسرة الجبوري الصغيرة هي الفولة ولقاوة والمجلد وبابنوسة وأبوزيد وأسرته الكبيرة في بورتسودان والفاشر وكادوقلي ورفاعة، فخبر الراحل على بلاد السودان عميم، وزرية الموت بفقدان حامد الجبوري جعلت الأرض تخرج أثقالها والكل يمني النفس بنظرة أخيرة، إلا أن صورة الجبوري ستبقى خالدة وراسخة!