الأستاذ الطاهر ساتي يطالب باسكات الأصوات التي تنادي بإحياء التراث النوبي.. يقول إن الكوابيس تطارده كلما سمع هذه المطالبات!! ويقول إنه لا يعترف بتراث ولا ثقافة ولا لغة نوبية!! بل ذهب به الحمق بعيداً درجة الكذب الصريح؛ نسب لكاتب هذه الأسطر كلاماً لم يقله. يجب أن يستثمر النوبيون ظاهرة الطاهر ساتي هذه!! ولا يجب أن ينزعجوا لأنه معلوم للجميع (أن العارف عزو مستريح ) ولن يكون له أثر إلا كما يفعل البعوض في (أضان فيل) ولا يجب أن ينسوا أن الأزمة فرصة للنهوض! من ينزعج كثيراً من تعليقات الطاهر الحمقاء مصيبته من نفسه، ما ذنب المعتدي إذا كان المعتدى عليه يعاني من احتقار الذات ويكفي الأستاذ الطاهر ساتي أنه هو نفسه (عايش كوابيس وإزعاج) عبر عنها بوضوح! هنا أيضاً لا نؤيد تلك الأصوات النوبية التي تنادي بتجاهل هذا الكاتب، لا يجب التقليل من قيمته. أقول بذلك رغم أنني على دراية تامة بضعف خلفياته الفكرية ونفسياته المرتبكة.ولكن خطورته خطورة طفل (يلعب بالكبريت)، يعبث بعود ثقاب يستطيع به أن يشعل النار في نفسه وفي غيره، من موقعه يملك أن يحدث خدوشاً دامية في وجدان النوبيين البسطاء ثم يجلس متابعاً ردود الفعل باستمتاع عجيب، يبدو أنه مبرمج لفعل ذلك منذ الطفولة لهذا، الأجدى مواجهته لتعطيل هذه الأنياب ثم استثمار هذه الاقتحامات الحمقاء وتحويلها إلى سانحة للإصلاح ونقد الذات! إذاً كيف نستفيد؟نبدأ بفهم الظاهرة بهذا السؤال: لماذا يكرهنا أبناء الهامش النوبي وبالهامش نقصد الثقافي التراثي. الطاهر ساتي هنا أحد رجلين: أما أنه مريض يبحث عن موضوع (ليفش فيه غله) كقطة مذعورة تخربش أول من ينقذها أو أنه مأجور كصاحبه الذي يحرق الآن نخيل بلاد النوبة لحساب من يدفع له!! أو هو يحمل بصمات اضطهاد منذ الطفولة من قبل المجتمع النوبي، وفي هذا الحال ممكن أن نعتذر له كما يفعل المتحضرون مع الأقليات المظلومة !الواضح أنه مبرمج على تراكمات نفسية استحالت مع الزمن إلى دفقات من الحقد الأسود يبثها كلما سنحت له الفرصة.من حسن حظ النوبيين مهما كانت أسباب هذه الأحقاد النتيجة واحدة، وهي أن في اختياره للتراث النوبي بشارة.. لا يمكن أن تكون أمة من الناس هدفاً لمثل هذا الحجم من الكراهية إن لم تكن أمة راسخة لها خصوصيتها مهما كانت الندوب التي فيها.هذه الكراهية شهادة دامغة على أن (النوبية) أصبحت تياراً جارفاً تهز النفوس الضعيفة والأقليات المنعزلة. هذا التفسير (العكسي) يحمله بيت من الشعر كنا نحفظه صغاراً يقول : مليحة شهدت لها ضراتها والفضل ما يشهد به الأعداء هذا البيت يقول لنا بقدر حجم الحقد الذي يلاحقك يكون قدرك عالياً أو لو أراد الله لك فضلاً أطلق عليك لسان حسود. عندما صرخ أحد الفلاسفة بأنه وجد في الذباب جمالاً قيل له.. كيف؟ قال :الذباب يعطني درساً في ضرورة النظافة !! اذكر أيضاً في رواية (فاوست) الشهيرة أن بطل الرواية احتفى بالشيطان بحجة أنه الخطر اللازم من أجل إحقاق الحق!أوردت كل هذا ليفهم النوبيون الوثيقة التي يتناقلون منذ العام 2007م، والتي فيها سب الطاهر ساتي أهله.. لا أرى فيها أكثر من حجارة قذفت في مجرى النيل والحجارة في مجرى النيل لا تعطل التيار بل تبني الضفاف !! الوثيقة لم تخرج عن دائرة السباب وبذلك قطع الطريق على أي تفسير يقول إنه أراد الإصلاح.، معلوم أن المشفق المحتقن قد يسمعك كلاماً (يبكيك) أو يسمعك نقداً ذاتياً جارحاً ليوقظك، ولكن مثل هذا الاحتمال مستبعد تماماً لمن يقرأ النعوت التي ساقها والشتائم التي صبها بمجرد أنهم عارضوا بناء سد في كجبار لم يعرف حتي اللحظة مواصفاته ولا ضماناته.كيف ندعي أننا نصلح أناساً نعتبرهم (مرمي الله) أي بمعني آخر (ملاقيط)، ماذا يكون من رماه الله ورماه خلقه؟ أي إصلاح في أن تنصحني أن القي كل لغتي وتراثي في القمامة لحساب العرب والانجليز!! نعيد للأذهان بعض الشتائم التي ساقها في جريدة الصحافة في تاريخ 19ابريل /2007م.. هذه الوثيقة منشورة كما هي في موقع كجبار (إذاعة كدن تكار)، في هذه الوثيقة وصف جماهير كجبار التي خرجت في رفض سياسات الحكومة بالآتي: وصف المعارضين بالفسق والمجانين وبالبلهاء. ووصفهم بعدم الحياء. ووصف الرفض (بقلة الأدب) وهذا هو المفهوم. وصف الجماهير ب(مخلوقات) كجبار ويفهم بوضوح المقصود من هذا الوصف !! (الإرث النوبي-التراث النوبي-الثقافة النوبية )ليست إلا (أضرحة ومقابر أجدادنا القدماء). أما أسوأ الأوصاف فقد كان في وصفه للنوبيين ب(مرمي الله ما بترفع)، والمعني المباشر هو لا فائدة من إصلاحهم!! مفهوم لأي منصف أن هذه المفردات لا تعيش في قواميس النقد الموضوعي ولا المتحيز بل حتي في حالات جلد الذات لا يمكن أن نجد لها مبرراً.. هذا النوع من المفردات كالصراصير لا تعيش إلا في الدهاليز المظلمة الرطبة للنفس البشرية، لا تخرج إلا لسحق الخصوم ولا تحمل على ظهرها وجوفها سوى العفن. الكراهية هنا حالة نفسية وليست طاقة دافعة للإصلاح، كأنما هنا يصفي الكاتب حسابات نفسية قديمة اختمرت في وجدانه منذ الطفولة ظلت تتحين الفرص. هب أن جماهير كجبار كانت مخطئة في معارضتها أو في حساباتها هل يستحقون مثل هذه الأوصاف؟ نترك هذه الأحقاد لأنها بطبيعتها ضعيفة كجرثومة السل الرئوي تموت مع أول أشعة شمس، ونقرأ العجب في حسابات الكاتب المخطئة. من يقرأ هذا العمود في زمانه ربما كان يمكن أن ينفعل بواقعيت ولكن بعد سبع سنوات يمكن أن نقرأ الآن بوضوح أن حسابات الكاتب كانت مخطئة تماماً وليست حسابات الجماهير الرافضة.. الحيثيات كانت مضللة والواقعية كانت كاذبة.. من سوء حظ هذا الكاتب ظهر الآن أنه كان مندفعاً في شتم النوبيين على (المافيش)، وفي مايشبه الاعتراف بكى حال سد مروي !! بعد سبع سنوات وضح الآن أن الحكومة لم تنفذ السد وليس ذلك استجابة لمطالب الجماهير ولا خوفاً منها وهم في الأصل أقلية كما تقول الحكومة والطاهر ساتي، بل لأنها لم تكن صادقة عندما طرحت المشروع ولا مسؤولة عندما تعاملت مع الجماهير، حتي الدراسات التي أجريت لم ينشروا تفاصيلها.. يكفي أن السد لم ينفذ لأسباب تخص الحكومة ولا دور لجماهير كجبار في تعطيله، المصيبة أن الحكومة أحرجت أنصارها من النوبيين الذين كانوا ينادون بتنفيذ السد.يبدو الآن بوضوح أن الكاتب كان يضلل القارئ عندما تساءل مستنكراً المظاهرات واعتبرها أنها كانت ضد التنمية، وضد الكهرباء، والري المستدام... كان الأمر سيكون وجيهاً لو نفذت الحكومة السد بالقوة وكانت قادرة لو أرادت- ثم تمد المدن بالكهرباء والري المستدام كما توقع الكاتب، ثم يقول لهم الطاهر ساتي أنظروا كيف كنتم مخطئين عندماً عارضتم المشروع ...!!إذن كل الأوصاف التي شتم بها الجماهير يمكن الآن أن نردها إليه بسهولة لأنه كان مخطئاً في منطلقاته منعوا الكهرباء حتى الآن عن النوبيين شمال دنقلا والسبب لأنهم عارضوا السد في كجبار.(عليكم الله) هل هذه الحكومة مسؤولة وهل لمثل هذه الحكومة كان على جماهير كجبار أن تسلم أمرها.. والغريب أنه لمزيد من التضليل يقول إن المناصير لم يرفضوا.. والآن نستطيع أن نفهم بوضوح أن المناصير كانوا مغلوبين على أمرهم: قتلوا منهم وشردوهم في بلاد الجعليين حتي اضطروا للاعتصام الشهير الذي استمر لأشهر وحتى الآن وطنهم في كف عفريت. واضح أن الكاتب كان مندفعاً بواقعية كاذبة معروفة في الصحافة السودانية قد تجلب بعض الإثارة، الصدق فيها كالصدق الذي في المنطق الصوري، وعالم التجريد لا قيمة له عند التنفيذ. يتحدث عن السد ولا يعرف معنى التنمية، ولا الري المستدام، ولا الكهرباء، ولا تطمين الخائفين على ديارهم وثقافتهم، ولا يعرف المستوى الخلقي للساسة الحكوميين، ولا يعرف قيمة الأضرحة القديمة ومقابر أجدادنا القدماء.. لا يعرف أنها تدر دولارات أكثر من مشروع سد مشكوك في نجاحه وفي إمكانية تنفيذه.. لا يملك سوى دوافع وأحقاد تاريخية خرجت لتجرح المساكين لمجرد أن الكاتب اعتراه إحساس كاذب بأن المنطق معه وأطروحاته واقعية تحمل العصرنة والحداثة.المصيبة الكبرى ليست في الشتائم ولا في جهل الكاتب بالقضية، بل في المذبحة التي حدثت في كجبار بعد خمسة وخمسين يوماً فقط من تاريخ هذا المقال.. قتلت القوات الحكومية بالرصاص الحي في الرأس والصدر أربعة من الشباب وتركت عشرات الجرحى في 13 يونيو 2007م.. السؤال هل هذا المقال في جريدة الصحافة كان تمهيداً لتصفية الجماهير بالرصاص أم أن المسألة كانت مجرد مصادفة؟ إذا ظهر يوماً أن هذا الكاتب كان بالفعل ينفذ سياسات الحكومة في الولاية الشمالية، سنهنئها بحرارة لأنها نجحت لأبعد الحدود في اختيار الرجل المناسب لهذه المهمة.وإنها لبشارة أن يكون النوبيون بمثل هذه الخطورة في عيون الإنقاذيين..!! الحلقة القادمة: الطاهر ساتي ومآلات القطيعة وأسبابها