كلما أخرج أحدهم قلماً يهاجم فيه مقدسات النوبيين، اسمع أصوات من ينزعجون! لا يجب الانزعاج بل هذا مدعاة للإرتياح.. هل تعلمون أن النوبيين هم (القبيلة) الوحيدة في السودان التي كتب عنها الآخرون ما شاءوا دون حساسية أو خوف من انتقام؛ يكفينا فخراً أن الآخرين يتعلمون فينا (التنشين)؟ هذه واحدة من مساهماتها في الثقافة القومية والمساهمة الكبيرة أن الآخرين يتعلمون منا كيف يحبون تراثهم.. أن لا يهربوا من جلودهم وبعد كل هذا نقدم ترياقاً لم يسبقنا عليه أحد وهو أننا نقدم أنفسنا كياناً ثقافياً لا قبلية فيها، اسمي نفسي منسوباً لمدينة (حلفاوي - دنقلاوي) وليس لدينا شجرة أنساب نتفاخر بها .. لا حقيقية ولا كاذبة.. من ينتقد ما نقوم به سيكون أمره مضحكاً.. وهذا بالضبط ما نقرأه الآن في (التحرشات الصحفية) التي تلاحق النوبيين.. الملاحظ أنهم بلا منطق مقنع أو حتى موضوعي، فقط يمارسون ضدنا إرهاباً فكرياً مضحكاً وهو أننا (متعصبون أو عنصريون)! كثرة الجروح التي أصابت الهوية السودانية الفطيرة من أخطاء السياسيين، والضعف الفكري نتيجة لغياب الحريات وامكانية تمرير المغامرة، أفقدت هؤلاء الفهم الصحيح.. الواضح في اندفاعاتهم العاطفية السالبة التي تأتي أحياناً بسبب احتقار الذات والغيرة القبلية وحسد الرموز، أنهم لم يفكروا ولو للحظة في معنى التعصب، وما هي حدود البحث عن الذات والتعبير عنها؛ وهل كل من يتحدث عن نفسه يعد متعصباً؟ وهل من يتمترس بذاته وهو في حالة دفاع عن النفس يعتبر عنصرياً!! هل نحن بالفعل متعصبون أم أننا نذكرهم بتاريخهم وهوياتهم التي أضاعوها في أزقة المدن أو احتقروها؛ أي نحرجهم عندما نتحدث عن أنفسنا.. وما ذنب النوبيين إذا كان هذا حالهم في خلفياتهم التربوية؟ حتى العقلاء منهم يقدمون فكراً مصاباً بشيء من السوس، يقولون إن السودان في حالة حرب في دارفور بسبب القبلية والكلام عن التراث كلام عن القبائل.. لهؤلاء نقول: ما حملت القبائل السلاح في دارفور إلا لأنها لم تجد فرصة للنقاش: إما لأنها أصلاً لا تعرف النقاش والحوار والكلام أو لأنهم تم إسكاتهم بحجة التعصب والعنصرية، إنسان القبيلة الذي أخرجوه من العروبة بسبب الثقافة ولون البشرة، مضطر ليمتدح مع العطبراوي عروبة لا يعترف بها!! ولو تركوه يعبر عن نفسه لما حمل السلاح. رغم كل هذا يمكن القول إن التعصب القبلي كان نتيجة ولم يكن سبباً بل التوظيف السياسي لهذا الجرح القديم هو السبب. من الغباء القول إن سحق الثقافات وإسكات الأصوات التراثية هو الحل لإيقاف الحرب في دارفور.. المطالبة بوقف المحاولات العلمية لمعالجة التراث وإسكات القراءات الجديدة للتاريخ ما أكثر من بلطجة فكرية يمارسها كتاب مغامرون.. هذه الأصوات الصحفية هي التي تنشر القبلية، هذه الدراسات والمحاولات العلمية لإحياء التراث هي وحدها التي تعالج مشكلة الحرب القبلية والدليل أن الوعي بالتاريخ تحيل (القبلية) إلى كيانات ثقافية ثم إلى هوية آمنة غير منسوجة بطريقة مكلفتة كما تريدها هذه الأفكار الفطيرة! الملاحظ أن هؤلاء الكتاب من حزام ثقافي واحد: مناطق تماس ثقافي في دنقلا أو في جنوبها الأقصى، وهي مناطق معلقة الانتماء وسوف نعود لهذا التصنيف تحت عنوان (دنقلا والخصوصية النوبية!) الملاحظ أنهم يخشون على أنفسهم أكثر من خشيتهم على الوطن؛ يخشون على أنفسهم من عملية البحث عن الذات: لم يتعودوا التفكير في أصولهم ولا يهمهم خلفياتهم؛ وذلك: إما لأنهم يحتقرون ثقافات القرى أو لأنهم بالفعل لا يعرفون شيئاً بحكم التربية في المدن.لا يملكون سوى الهروب إلى سلاح الإرهاب الفكري وهو رمي المهتمين بأصولهم أنهم متعصبون عنصريون! لهذا هم في النتيجة النهائية أكثر الناس بكاء على السودان الضائع. هؤلاء يضيعون أوقاتهم في ما لا طائل من ورائه، وعليهم أن يفكروا في أنفسهم وفي تاريخهم بشجاعة. يذاكروا أصولهم قبل أن يداهمهم أطفالهم بالسؤال..لا بد أن يبدأ الحل من القرية ولا بد من تحرير هذه القرية من الخرافة بالنقاش والحوار والمثاقفة بدون هروب. لهؤلاء نقول: اطمئنوا نحن الذين نبحث في التراث نقدم الحلول الاستراتيجية، ونترك الحلول العاجلة للسياسيين، السودان في حدقات أعيننا ولا يؤتى من قبلنا! نقول من جديد: الحرب في دارفور بدأت أولاً بسبب الفقر والجفاف ثم التهبت الجروح القديمة وهي القبلية. الهوية كانت ضعيفة في الأصل لم تدخل مرحلة النضج وعليها جاءت معالجات سياسية حملت أفكاراً أشبه بأفكار بعض كتاب الأعمدة الصحفية التي نقرأها الآن، لهذا أصبحت الثقافة المحلية طاقة تدفع الحرب. ظلت القبلية هناك في الظلام تحت الرماد غير قابلة للنقاش مقموعة تحت التهديد بسلاح (التعصب والعنصرية). لم يناقش أحد: من هو العربي وما هي العروبة: أين الحقيقة وأين الخرافة: أيهما أكثر أمناً: الجهوية أم القبلية وكيف نتخطى القبلية؟ لم يتركوهم يعبروا عن أنفسهم في الهواء الطلق. سلسلة من الأسئلة كانت تحتاج نقاشاً خارج ظلمة المجالس الخاصة، ولكن بدلاً من ذلك هرب السياسيون ومن بعدهم بعض صناع الرأي إلى سلاح (الجهوية والتعصب والعنصرية) كتبرير للهروب وليس توصيفاً للحال!! *** والغريب أن هذه (الحالة) من التوهان والارتباك التي تغذي البلطجة الفكرية لدى بعض كتاب الأعمدة كادت أن تقنع حتى مثقفي النوبة: نستطيع أن نقول إن الأستاذ مصطفى بطل الذي يمكن أن نقول إنه (دافع) عن النوبيين قدر المستطاع وهو يتأبط كماً هائلاً من الحرج، كاد أن يبصم على مقولات هؤلاء الكتاب لولا علاقات عائلية تربطه بالمتضررين من التجار النوبيين الذين دفعوا للبلابل ! كتب واضعاً إيحاءات بعيدة كأنه مقتنع بعنصرية النوبيين، ولكنه غير مقتنع باستهداف أبرياء من أهله.. وفي النهاية عالج هذا المأزق بإطلاق الرصاص على (الجريح) وهم جماعة سلاف!! كتب تحت عنوان (نوبيون عنصريون!) وكان العنوان مربكاً يحتاج من القارئ جهداً ليفهم المقصود: هل أراد الكاتب أن يتهكم من هذا الاتهام بدليل علامة التعجب في الذيل، أم أنه يؤكد تعصب بعض النوبيين؟ ويا للمفارقة أن محرر الجريدة وضع العنوان في الصفحة الأولى بدون علامة تعجب أو أقواس، وأكد بذلك الاحتمال الثاني وهو ما لم يقله الكاتب صراحة في الأسطر الداخلية! هل كان هذا العرض مقصوداً أم مجرد خطأ سببه النسيان.. لا ندري؟! نعم كان محقاً عندما قرر أن (جماعة سلاف) لا يمثلون النوبيين، وهم بالفعل مجرد جماعة سياسية متشظية من المؤتمر الوطني المنهار، ومن الظلم أن ينسب للنوبيين تلك المطالب الحمقاء التي رفعها بعضهم، ولكن حتى هؤلاء لا يجوز اعتبارهم من العنصريين، هذا إذ لم يكن المقصود هو تتبع عورات مجتمع بكامله!! لم يقل لنا الأستاذ بطل إن كان يوافق (أحبائه) الصحفيين الذين يطالبون بإسكات أصوات الباحثين وتعطيل فصول تدريس اللغة النوبية.. كنا نود رأياً صريحاً في حكاية عنصرية النوبيين هذه لفرز الكيمان فقط -إذن المطلوب من النوبيين أن يواصلوا في البحث عن ذواتهم وإعادة إنتاج الإنساني والجميل من تراثهم ! دون الاهتمام بهذه الأصوات فأغلبها نعيق لطرد الظلام، ولكن علينا أن نستثمر ما يمكن استثماره من هذه الأصوات ونترك الباقي دون أن نفتح له باباً للتجارة على حسابنا.. - مزيداً من الكلام عن الذات وفتح أبواب الدراسة والنقاش والصبر على الآخر، حتى تتم تعرية الهوية الضعيفة التي تجعل الآخرين يعانون الكوابيس أو(يصيحون) كلما سمعوا مطالب النوبيين. - هكذا، الخلايا الميتة في الجسم لا تتحمل التدليك لتجري الدماء في عروقهم، وهذه الآلام هي سبب الخوف من النوبيين ومطالبهم وهذا بالضبط ما نعنيه ب(فوبيا التراث النوبي)! .. ولكن قبل أن نتوقف، تعالوا نتساءل: إذا افترضنا جدلاً أن هذا (البعض) من كتاب (العجالات) الصحفية هم من صناع الرأي!: هل من بينهم من في قامة الكاتب الكبير الطيب صالح؟! في الحلقة القادمة نبدأ في قراءة (الطيب صالح مع النوبيين )!!