يبدو أن ماكتبناه في هذه الزاوية يوم الاثنين الماضي تحت عنوان «من أراد أن يبتئس .. فليزر بحر أبيض»، في أعقاب زيارتنا لولاية النيل الأبيض ووصفنا فيه التردي الذي تشهده عاصمتها «ربك»، قد نكأ جراحاً متقيحة في صدور أهل بحر أبيض جراء ما يعانونه من نقص إن لم يكن انعداماً في الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها النظافة والصحة والتنظيم. فتواترت علينا هواتف المواطنين، ورأى بعضهم أن فتح ملف التدهور في بحر أبيض يمثِّل سانحة للتعبير عن معاناتهم، ومن بين الذين اتصلوا وكتبوا السيد عبد المجيد حاج علي الذي بعث على بريد «الإضاءات»، رسالة مطولة عن أوضاع أهم مدن النيل الأبيض مدينة كوستي العريقة، رسالة صب فيها جام غضبه على مسؤولي المدينة، واصفاً إيَّاهم بافتقارهم إلى الذوق والإحساس بمعاني الجمال، فإلى الرسالة التي ننشرها بقليل من الاختصار: أكتب رسالتي هذه، ولاخير فينا إن لم نقلها ولا خير فيهم إن لم يسمعوها.. أكتب للمسؤولين عن نظافة مدينة كوستي. إن النفايات والأوساخ التي أصبحت مشكلة عامة تهم جميع مواطني وأبناء كوستي .. التي كانت مدينة في ما سبق، وأمست الآن أظلم من بيادر البدو، فمعاناة مواطن وساكن هذه المدينة هي العمود الفقري لمعنى الحياة والإحساس بقيمتها، ألا وهي «النظافة» التي تعلمنا منذ صغرنا من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أن «النظافة من الإيمان». فما يعانيه سكان مدينة كوستي.. التي صارت بلدة لا وجيع لها ولا بواكي عليها.. الإهمال في شتى مرافق الحياة من تلوث المياه إلى تلوث البيئة. غياب النظافة في المدينة أصبح هو السِّمة البارزة، مما جعل الشوارع في الأسواق والأحياء وحول المدارس وكل مكان، مرتعاً خصباً لكل معاني الدرن والعفونة والنتانة.. فأين هم المسؤولون عن نظافة المدينة؟ أصبحوا لا يهتمون، فهل فقدوا القيمة الإيمانية لمفهوم النظافة؟ ألا يفهمون أن من كانت نفسه نظيفة سيكون نظيفاً في كل شيء.. إنهم فقدوا الإحساس بمعنى الحسن وروعة الجمال وقيمة البهاء.. ولا همّ لهم سوى جمع الأموال.. وليتهم يجمعونها من المواطن حتى يرى فعلاً نظيفاً يرضي النفوس.. ليتهم يقدمونها جزاءً حسناً لمن يستقطعونها من قوتهم وقوت عيالهم.. أصبحت رسوم النفايات في هذه المدينة «جزية» تدفع لتزداد أكوام الأوساخ يوماً بعد آخر.. لماذا يدفع مواطن كوستي رسوم نفايات؟ وأين تصرف هذه الأموال؟! طالما أن البلاء والأذى يتضخم حتى صار جبالاً من الأوشاب والنفايات في كل أركان المدينة، التي يمر بشوارعها المسؤولون كل يوم ولا يهتمون.. فهلا يبصرون؟! النفايات بهذه المدينة أصبحت مرتعاً خصباً لتوالد كل أجناس وأنواع الميكروبات والآفات والهوام الضارة بالإنسان والنبات والحيوان. إن العقول وحدها لا تدبر زينة الحياة ولا تستطيع أن تجملها إذا فقدت الإحساس بالجمال وتذوق الحسن.. فمدينة كوستي كانت تُطرز حروفها وتُنقش على المناديل التي لا يكتب فيها إلا ما هو جميل، حتى قال المغني «كوستي وحروفها الخمسة منقوشة في المنديل»، كانت من أنظف وأجمل مدن السودان، ومضرباً للمثل في الجمال والبهاء والتآلف الاجتماعي والوعي الثقافي، حتى اضمحلت لأن قيادتها التنفيذية أصبحت خاوية العقول وبلا ضمير مسؤول .. ليتهم قرأوا للأديب أحمد أمين قوله «ولئن كان العقل أسس المدن ووضع تخطيطها.. فالذوق جمَّلها وزيَّنها»، لكنهم من أسف لا يقرأون وغاب عندهم الذوق والإحساس بالجمال.. كيف ينظرون إلى مواطن هذه المدينة وإنسانها .. وهل ينتظرون أن تموت مدينة كاملة تحت وطأة الأمراض المصاحبة لجبال الأوساخ والأنتان.. فقد أصبح مواطن كوستي - للمفارقة- يدفع قيمة الداء والدواء في آن معاً. فهو يدفع رسوم النفايات كما يدفع قيمة أدوية الملاريا والبلهارسيا ورمد العيون وتكاليف علاج الفشل الكلوي. وليت أموال النفايات، بعد كل هذا، تُجمع بإيصال قانوني «أورنيك 15»، حيث لا يوجد في فهم شركة النفايات هذا القانون، بل قانونهم الملاحقة والحبس لمن لا يدفع ، فأين العدل؟. إن مدينة كوستي تشكو الفقر في كل شيء، حتى في قيادات تمتلك الذوق، فهم الآن لا همّ لهم سوى جمع الأموال.. فبالله كيف ينامون وهم يسمعون دعوات المظلومين يومياً كل ما طن الذباب نهاراً واحتشد الباعوض ليلاً؟. فمدينة كوستي في حاجة ماسة إلى قيادات ومسؤولين يمتلكون العقل والذوق معاً، فأهل المدينة قد يئسوا من القائمين على أمرها الآن، فأصبح حال المواطن كحال البهيمة التي توقد لها النار حتى يطرد الدخان عنها الذباب والهوام. فقد أصبحت كوستي مهدورة الكرامة، بعد هدر كرامة ساكينها وتحولت إلى قرية نتنة ومظلمة، ونحن نكتب لأن كل مواطن في هذه المدينة، من الأوفياء المخلصين، لا يمكن أن يقبل القبح الذي خيم عليها، فهم ينشدون الجمال والرفعة.. ولكن!. فإذا لم يستطع مسؤولو جمع النفايات والأوساخ، الذين يتسترون وراء القانون الجائر تحمل المسؤولية والارتقاء بالمدينة فعليهم أن يتنحوا ويفسحوا المجال لمن هم أجدر منهم وأخير.. وعلى المسؤولين في محلية كوستي وعلى رأسهم الأخ المعتمد إحقاق الحق وأن يخافوا الله في عباد الله.. والله المستعان. عبد الحميد علي عثمان كوستي الحلة الجديدة حي الرعاية