النفس البشرية مليئة بالأخطاء والأهواء، وفي نفس الوقت خالية من قيم الاعتذار الذي يعتبر من صفات الكبار وأصحاب المبادئ الحقيقية، الذين يترفعون عن أهواء النفس ويواجهون أنفسهم بقول الحق ولو على رقابهم. مفتاح الأعتذار الذي نفتقده كثقافة إنسانية مهمة، هو الاعتراف بالخطأ، ومحاولة تصحيحه، وهذا الخلق القويم والرفيع صفة مميزة وسلوك إنساني راقٍ، من خلاله يمكن أن ندرأ الكثير من البغضاء والأحقاد والضغائن.. قدوة البشرية محمد صلى الله عليه وسلم يضرب نموذجاً رائعاً في ذلك من خلال اعتذاره لسواد بن عزيّة يوم غزوة أحد، حيث كان واقفاً في وسط الجيش فقال النبي للجيش: «استووا.. استقيموا»، فينظر النبي فيرى سوادًا لم ينضبط، فقال صلى الله عليه وسلم «استوِ يا سواد»، فقال سواد: نعم يا رسول الله، ووقف ولكنه لم ينضبط، فجاء النبي بسواكه ونغز سوادًا في بطنه وقال: استوِ يا سواد، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثك الله بالحق فأقدني! فكشف النبي عن بطنه الشريفة وقال: اقتص يا سواد، فانكب سواد على بطن النبي يقبلها، فقال صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟، قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير. «معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني».. فأين نحن من هذه الصفة والقيمة الإنسانية بل والدينية التي يحثنا عليها أشرف خلق الله عليه الصلاة والسلام. أسوق هذا وفي ذهني ما يسجله تاريخنا السياسي من خلوه التام من هذه الصفة الحميدة منذ الاستقلال وحتى الآن، إذ ما يزال الإعتذار عن الخطأ صعباً ومستبعداً لاعتبارات وتقاليد نمطية متوارثة، في حين تأصلت لدينا ثقافة الأعذار لتبرير أخطائنا ومن ثم المضي قدماً في المزيد منها دون وازع من ضمير وأخلاق. أحزابنا السياسية (صاحبة العمر المديد)، ورغم ما ارتكبته من أخطاء جسام في حق هذا الوطن عبر كل الحقب المتعاقبة، تجاهلت وتغاضت عمداً عن الأخذ بذلك، ولم يسجل لنا التاريخ أن خرج أي منها ذات يوم ليقول «أخطأنا في حقكم فسامحونا».. على العكس كان وما زال الشعب السوداني هو الذي يخلق المبررات من خلال تسامحه وتغاضيه عن كل أنواع وأشكال الضيم التي مر بها، سواء كانت تلك المظالم عمداً أو جهلاً. ماذا يضير حكوماتنا وأحزابنا وقاداتنا من الاعتذار؟ ماذا سيخسر الوطن من هذه القيمة لو حاول أولئك المساهمة في إفشائها وتأصيلها، بدلاً من التفنن في إيجاد الأعذار.. يبدو أنهم تحت وطأة هذه النمطية التي تعتبر الاعتذار هزيمة وضعفاً وإنقاصاً للشخصية، في حين سيعتبره الشعب «إذا تحقق»، قوة نحو الحق وصدقاً مع النفس ومع الخالق. ما مر به السودان في تاريخه السياسي الحديث من ويلات وأهوال وانتكاسات، وما يتسم به المواطن من قيَّم أصيلة ومبادئ راسخة، تحتم على الجميع الأخذ بهذه الثقافة حتى نكفي الوطن شرور أنفسنا. فاصلة: قال الشاعر: إذا اعتذر الجاني ومحا العذر ذنبه كان الذي لا يقبل العذر جانيا.