ü كانت دهشتي عظيمة وهالني أن طالعت إعلاناً في هذه الصحيفة (أمس الأول الاثنين ص11) يزكي والي الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر ويذهب إلى تبخيس وتخذيل وتحقير أهل الصحافة والإعلام الذين إنحازوا إلى الحق العام، حق الفقراء والمساكين والمستضعفين الذي استأثرت به الثلة أو «الشلة» المحيطة بالوالي وحاملة اختامه وكاتمة أسراره وعاثت في «الأرض» فساداً بيعاً وسمسرة وشراء للذمم وأخرجتها «لجنة التحقيق» التي شكلها وزير العدل بفقه «السترة والتحلل» كما الشعرة من العجين، حتى لاحقها أصحاب الأقلام النزيهة العفيفة مما استدعى الوزير دوسة إلى إعادة النظر في ما فعلته لجنته الأولى ويعود ليأمر بالقبض على الثلة «المُحلَلة والمُحرَرة»، واخضاعها لقانون العقوبات (1991) ومواد الاعتداء على المال العام فيه وليس «قانون الثراء الحرام والمشبوه» الذي اتبعته لجنته الأولى في مواجهة الجناة، بتوجيه من الوزير أو بمعرفتها، لا ندري.ü الإعلان احتل صفحة كاملة ملونة قيمتها أكثر من (5) ملايين جنيه- بالقديم- صادر عن «جهة مجهولة»، حمل تحية وتهنئة للوالي عبد الرحمن الخضر بدافع «الوفاء»- لم يقولوا الوفاء لماذا وعلى ماذا- وبرروا «تجهيل» الإعلان الملون، الذي رافقته سبع صور من بينها صورة الرئيس ومساعده عبد الرحمن الصادق والوالي نفسه، واربع صور أخرى للوالي في زيارات لمستشفيات وجولات ميدانية، صممه قسم الإعلان بالصحيفة بناء على طلبهم، برروا التجهيل بأنها تحية وتهنئة من «رفقاء صلاة الفجر» وانهم يقدمونها «من غير ما اسم أو هوية سياسية أو جهوية أو مصالحية» غير ممهورة بتوقيع حتى لا يُعرف من وراءها.. مبررين ذلك بأنه «أي الوالي» يتجول بين مساجد العاصمة!! ü لا أعرف لماذا خشي هؤلاء- إن كانوا مجرد شخوص دافعهم الولاء والوفاء من تعريف أنفسهم والإعلان عن ذواتهم إن لم يكن «وراء الأكمة ما وراءها». فالطريقة التي صيغ بها الإعلان تحمل قارئه على الشك في دوافع أصحابه على عكس ما أرادوه فهم قد وضعوا انفسهم من غير أن يدروا في موضع المثل «كاد المريب أن يقولوا خذوني»، باخفائهم لذواتهم وهم يطرقون على «قضية فساد» سار بذكرها الركبان، مما دفع وزير العدل لمراجعة اجراءاته السابقة تجاوباً مع الصحافة والرأي العام و«أهل الوجعة». ü كنا قد كتبنا الاسبوع الماضي هنا حول ذات القضية قضية «مكتب الوالي» وليس قضية «التجاوزات المالية والإدارية في مكاتب ولاية الخرطوم» كما حاول أن يُجمّلها ويُقزّمها ويُخففها «أصحاب الإعلان» المجهولو الهوية، وأشرنا بوضوح إلى تقصير السيد الوالي في عدم الإحاطة بما يجري في مكتبه، بين يديه وتحت رجليه، وقلنا إن ذلك تقصيراً وفشلاً لا مزيد عليه، يقدح في كفاءته واهليته لإدارة هذه الولاية المركزية والأهم في البلاد، دون أن نتعرض لذمة الوالي أو طبيعة علاقته بالمحيطين به، من باب «حسن النية» وتجنباً للخوض في ما لم نُحط به علماً.. خصوصاً ليس بيننا وبين الوالي موجدة أو ضغينة شخصية. ü أخطر ما في هذا «الإعلان»- المدفوع الثمن- هو استخدام الدين لتبرير و «تمرير» الفشل والأخطاء، ورفع مسؤولية الوالي عن الفساد الذي عاث في مكتبه- لسهو منه أو لغفلة أو انشغال كما أوضحنا في «الإضاءة السابقة»- فقد كان مدخل هؤلاء «السادة المجهولين» إلى هذا التبرير و «التمرير» هو أن الوالي يصلي الفجر حاضراً «معهم» في كل مساجد العاصمة، وأنه يقف مع المصلين «وحيداً دون حراسة أو حاشية وأحياناً بلا سائق.. حتى تمدد الشمس ذوائب اشعتها الأولى ويطلع النهار».. وهذا بنظرهم كافٍ لأن تصبح كل أفعاله مبررة وكل اخطائه مغفورة.. وكان توقيعهم هو في نهاية الإعلان: «رفقاء صلاة الفجر- دون توصيف أو تعريف». ü ذكرني هذا التبرير بقوله جل وعلا في محكم التنزيل: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» والجُنّة هنا كما يقول «تفسير الطبري» بمعنى «يستجنون» بها من القتل، أي يحتمون بها من العقاب، (الآية 16 من سورة المجادلة) والتي تعقبها الآية (17) التي تقول: «لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» ولتزيد الآية (18) المعنى وضوحاً فتقول: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ». ü أعادني الإعلان الغريب- أيضاً إلى إعادة مطالعة سيرة الخوارج والشيعة ليليوس فُلهوزن، التي ترجمها إلى العربية الدكتور العالم عبد الرحمن بدوي- رحمه الله- وفُلهوزن يعتمد في سيرته ايضاً إلى تاريخ الطبري، أحد أوثق المصادر في تاريخ الاسلام.. والخوارج اشتهروا بين الفرق الإسلامية بكثرة التعبد والصلاة، لأنهم نشأوا في كنف «قراء القرآن» وعرفوا بذوي «الجباه المُعفّرة» من كثرة السجود، وهذا لم يمنعهم من توجيه «جهادهم» ضد أهل السنة والجماعة، إذ كانوا يرون في هؤلاء كفاراً بل أشد كفراً من النصارى واليهود والمجوس. ü وقصة الخوارج مع علي- كرم الله وجهه- قصة تليق أن تحكى في هذا المقام، لجهلهم الواضح وخلطهم بين ما هو «رأي للناس» وما هو «دين»، فقد اورد بدوي عن الطبري (الجزء الأول- ص 3360): أن علياً لما أراد أن يبعث أبا موسى الأشعري للحكومة- أي للتحكيم مع جماعة معاوية بعد معركة صفين- أتاه رجلان من الخوارج «زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي» فدخلا عليه فقالا له «لا حكم إلا حكم الله»! فقال علي «لا حكم إلا حكم الله»! فقال له حرقوص: تب من خطيئتك وأرجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال لهم عليٌّ: قد اردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً واعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا وقد قال الله عز وجل: «وأوفوا بعهد الله اذا عاهدتهم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها..» فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن نتوب منه. فقال علي ما هو ذنب ولكنه (عجز من الرأي، وضعف في الفعل)، وقد تقدمت إليكم فيما كان ونهيتكم عنه. ü ونقول ل«رفقاء صلاة الفجر» كما قال علي لحرقوص: إنه عجز في الرأي وضعف في الفعل في جانب الوالي، واستدعاؤكم صحبته ورفقته في صلاة الفجر لن يغني عن الحق شيئاً، فصلاة الوالي ونسكه ومحياه لله رب العالمين.. أما هنا في الدنيا وفي «الولاية» فالمطلوب هو سداد الرأي وقوة الفعل لحماية حقوق الناس عامة والمستضعفين خاصة، حتى يؤتى الوالي أجره كِفْليَن إن شاء الله جزاءً وفاقاً ل«احسان العمل».. وكفى بالله حسيباً.