في الحلقات السابقة ناقشنا قضية احتلال مصر لقرى شمال حلفا وهذه القضية هي الشق النيلي لملف أزمة حلايب، تسمى هناك بمشكلة (أرقين الحدودية). هناك حللنا الظلم الذي أوقعته اتفاقية ترسيم الحدود التي قادها المندوب السامي البريطاني وبطرس غالي المصري. تمزقت القرى والمجتمعات القبلية، وتمت تعديلات للاتفاقية سنعيد تلخيصها بالخرائط في الحلقة القادمة. وهناك أيضا الحجج القانونية التي تثبت الحقوق السودانية وناقشنا ضعف الموقف السوداني الرسمي رغم الحقوق الواضحة، وحللنا الأسباب التربوية والثقافية ، هنا نواصل في سرد بعد تفاصيل أحداث عام 1958م والتي كادت أن تؤدي إلى مواجهة مسلحة !! عندما فشلت اتفاقية مياه النيل التي كانت مصر في حاجة ماسة إليها لبناء السد العالي ، وقبل أن يستيقظ السودان بانقلاب عبود، أرسلت مصر قواتها لاحتلال القرى شمال حلفا. وعلى الفور حرك السودان قواته. دعا رئيس وزراء السودان آنذاك المرحوم عبد الله خليل لمؤتمر صحفي في مكتبه في أمر ذي (أهمية قصوى).. وفي أثناء ذلك المؤتمر أدلى رئيس الوزراء(ببيان يحتوي علي أنباء مثيرة بأن مصر تطالب بأرض سودانية، وأراضي كانت قد قبلت من الجميع بما فيها مصر بأنها جزءً من جمهورية السودان عندما حصل استقلال يناير 1956م.) حسب ما جاء في الملف الخاص لنشرة الأخبار الأسبوعية التي كانت تصدرها مصلحة الاستعلامات: هذه المناطق كانت تدار من قبل السودان منذ (56) عاماً، دون أن تكون لمصر أية مطالب عليها. . في الفقرة (ب) ذكر رئيس الوزراء بأن مصر تطالب «منطقة غير محددة شمال خط العرض 22 والتي تظهر أنها تشمل حدود سودانية تمتد من شمال مدينة وادي حلفا وتضم سره ودبيره ، وفرص».تدخلت الأممالمتحدة وانعقد مجلس الأمن لمناقشة القضية وعندما علمت مصر بالنتائج التي يمكن أن تترتب انسحبت من قرى حلفا وعلقت القضية حتى يومنا هذا!! من سخرية الأقدار أن الموقف البريطاني في مجلس الأمن أبان أزمة حلايب 1958م، كان أقرب للحكمة، وقد جاء مراعياً لحقوق المواطنين أكثر من المواقف الأخرى. وذلك عندما أعلن السير بيرسون مندوب بريطانيا موقف حكومته بقوله: (إن هذا أمر لا بد للأطراف المعنية تسويته بالطرق السليمة .. ولا يجب فعل أي شيء للتشويش علي الترتيبات الإدارية التي كانت موجودة لردح من الزمان في هذه المنطقة).. وهو هنا يطالب أن يستمر التواصل التلقائي بين المواطنين ولكنه يفترض نجاحات للترتيبات الإدارية القديمة. ومن سخرية الأقدار أيضاً أن تلك الأزمة انتهت بعد أشهر قليلة بتنازل السودان (ضمنياً) عن منطقة شمال السودان على يد حكومة عسكرية انقلابية برئاسة الفريق إبراهيم عبود، وذلك بقبول تفريغ الأرض من السكان وتهجيرهم لشرق السودان . أما الآن من أشتد به الحنين من السكان المهجرين لا يملك حتى حق زيارة هذه الأراضي الغنية بالأسماك والبرمائيات والأراضي الزراعية ، عليه فقط أن يقف خلف أسلاك شائكة يرنو من بعيد لخور سره أو جبل«شيخ يعقوب» التي تحمل ذكريات الأجيال!!. هذه القضية علقت حينذاك لضعف المدد الدولي حول عبد الناصر، أما في أزمة عام 1995م فقد علقت كذلك لضعف المدد الدولي حول ثورة (الإنقاذ) السودانية!!.الذي يهمنا من القضية الآن- أهمية هذه القرى من ناحية الجغرافيا والتاريخ أما حيثيات القضية التي يجب أن لا نتجاوزها نوجزها في نقاط: كان يجب أن لا تقرأ مشكلة حلايب عام 1958م خارج إطار قضية مياه النيل، وقد حدث بالفعل أن تم الالتفاف علي الحكومة الديمقراطية بانقلاب عبود. وقد نجحت توقعات المخططين حين تم تمرير اتفاقية السد العالي، وحين تم تفريغ هذه الأراضي من العنصر البشري وهو من الناحية الأمنية غباء قاتل وقع فيه الانقلابيون ، أما مشكلة حلايب 1995م فلم تكن أكثر من (عكننة) مسمار جحا، وهي واحدة من آليات سياسة (شدالأذن). نقول بذلك لأن الجانب المصري هو الذي دائماً ما يقوم بتحريك الأزمة. في الأزمة الأولي طالبت بإخلاء المنطقة في مدة أسبوع , أما في الأزمة الثانية فقد تم احتلالها بالقوة.! أما العنصر البشري (إنسان هذه القرى) فقد اعتبرتهم مصر(رعايا مصريين) في الأزمة الأولي، وعندما وجدت ما أرادت في اتفاقية السد العالي تخلت عنهم. أما الطرف السوداني الذي (عَمّر) بالمهجرين أعماقه القاحلة في خشم القربة، فيبدو عليه أنه عن طريق التحكيم أو التكامل يريد أن يتخلص من الأرض، فقط لو جاء المصريون وقد حفظوا له ماء وجهه وكرامته لن يتوان السودان على التنازل!!.. نقول ذلك لأن الإقرار بمبدأ المنفعة المشتركة أو التكامل يعتبر اعترافاً ضمنياً. مهما كانت نقاط الخلاف المصري السوداني والنتيجة التي انتهت إليها، فإن هذه المنطقة كانت لا تصلح لترسيم الحدود بين قراها،وقد كان خطأ فادحاً تلك المعايير التي استندت عليها اتفاقية يناير 1899م . إما أن تكون تلك الاتفاقيات صحيحة سياسياً، وتكون معها التعديلات جزءاً أصيلاً لا يجب فصلها بحجة الفصل بين الحدود الإدارية والسياسية. أو أن الاتفاقية كلها تفتقرالى الشروط السياسية، وتسقط قانوناً ليعود السودان إلي وضعه القديم. وهنا يأخذ السودان هويته القانونية من قيام برلمان الاستقلال عام 1956م بموافقة مصرية .. ! أو أن تتفق الدولتان طبقاً لمصالح السكان الذين تم تهجيرهم ظلماً أو الاحتكام لمحكمة دولية ، في كل الأحوال يجب أن تنسحب القوات المصرية من سره وفرص ودبيره واشكيت وارقين!. إذن :الحقوق السياسية في هذه القرى: سودانية وذلك إن لم يكن طبقاً لقراءة النصوص، بالواقع الاجتماعي أو الملكية المشهورة التي حسمت قضية حنيش بين اليمن واريتريا. أحدي القراءتين أو كلاهما معاً جديرة بأن تعيد هذه القرى لأهلها .. وأخشى ما أخشاه أن تقع الحكومة السودانية - وهي في لحظة تعاطف ساذج- في فخ (معبر أشكيد) فالمعبر يجب أن يكون في موقع فرص القديمة!!