درجت مجموعة من طالبات الجامعة على مراسلتي عبر البريد بصفة مستمرة، والتعليق على كل ما أكتب، بعد أن جاء أحد الآباء بمقال لي لابنته لتقرأه عليه ذات يوم، وكرر الأمر أكثر من مرة.. وأخذته بدورها لصديقاتها.. فأصبحن صديقاتي.. هناء.. وسماح وإشراقة وعبير. أرسلن لي رسالة فحواها الآتي: الأستاذة زينب السعيد.. كتبتِ كثيراً عن المواضيع الاجتماعية وعن قصص واقعية.. وحتى في السياسة.. ولكنك لم تكتبي ولا مرة عن الحب.. فهل الحب في نظرك حرام؟.. وأين الحب في حياتك؟.. وهل تعيشين هكذا دائماً بجدية؟.. صديقاتك المخلصات. وكان من الممكن أن أرد عليهن كما تعودت بصورة خاصة، ولكنني آثرت أن أشرك الجميع في الرد.. فإنه من دواعي سروري أن يكون لي قراء من الشباب، لا سيما.. البنات.. فلأن يشتري طالب صحيفة ليقرأ ويعلق، فهذا والله أمر حميد.. نفتقده.. فالثقافة الحقة لا تتأتى إلا بالقراءة .. نأهيك عن الوسائل المعلوماتية الأخرى.. أما بخصوص الحب، فإنه ما من إنسان سوي الفطرة.. سليم الوجدان.. لا يعرف الحب بكل أشكاله.. حب الله ورسوله (صلى الله وعليه وسلم).. الوطن.. الأهل.. الزوج.. الأبناء.. (وحتى حب الرجل للمرأة والعكس)، فهذه هي سنة الكون اللازمة للإعمار. فهو إحساس شفيف يسمو بالنفس ويطهرها.. من أرجاس الأنانية.. ويرقى بها إلى مراقي النبل.. الإيثار.. التسامح، والرحمة.. الصفح والغفران.. هو عطاء يغمر الروح بفيض من الاستكانة والراحة.. والحبور.. ولا أحد يدعي أنه لا يريده أو بإمكانه الاستغناء عنه. لكنني فقط أتحفظ على حب هذا الزمان.. (إن كان بإمكاننا تسميته كذلك)، فما عاد الرجل أميناً على مشاعر المرأة.. ولا هي كذلك (إن ما نكتب ليس مطلقاً على عموم الناس، وإن كان هو الغالب). ففي الماضي حتى حب الأسرة لبعضها كان مختلفاً عن اليوم، فلم نكن نسمع عن عقوق.. أو نشوز.. ناهيك عن القتل.. والمحاكم.. والقطيعة الممتدة لسنوات. أما الحب بمفهومه السائد المجرد.. فالرجل في الماضي كان الحب بالنسبة له، هو الاحتفاظ بالمعشوقة داخل القلب في نبل ورجولة.. يخاف حتى أن ينطق باسمها.. لأنه يغار أن يعرفه أخ أو صديق.. حتى يتمكن من الزواج بها.. وإذا لم يحدث فإنه يبقى حافظاً وفياً لذكراها وأسرارها وكرامتها.. قال إدريس جماع بعد أن شفه الحب وجداً وهياماً: دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد إذا أتمنى أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا هلا رحمتِ متيماً عصفت به الأشواق وهنا وهفت به الذكرى فطاف مع الدجى مغنى فمغنى لقد كانت النساء في حرز مكين.. عفيفات مصونات.. لا يعرفن الحب إلا عن طريق الزواج (لذا كانت أغلب الزيجات التقليدية التي اكتسبت المودة والعاطفة فيما بعد، هي الأكثر صموداً وتماسكاً)! أما شباب اليوم فهل هذا حب.. حب الرسالة الواحدة التي ترسل إلى أكثر من شخص وتكون من آخر.. أم حب التهديد بالفضائح وشيل الحال.. ألم تعاشرن البنات.. اللائي يعملن بالمثل (أربعة ضروري.. وثلاثة لا.. واحد لللف.. واحد للسف.. واحد في الصف.. وواحد في الرف).. الحب الذي يقبل القسمة على أكثر من أربعة هل تراه حباً؟ أي حب هذا الذي تسألنني عنه.. حب الرجل الذي لا يخاف على محبوبته ويتباهى بها أمام أصدقائه.. وتصبح مشاعرها.. مسموعة (بالإسبيكر).. ورسائلها.. فرجة للعيون النهمة، ومن بعد ذلك خيانة مع الصديقات.. الأخوات.. بلا وازع.. فالذي يخون ذاته من السهولة أن يخون الآخرين! حب الزواج العرفي... أم تزجية الفراغ.. أو ربما.. المصلحة؟.. تموت الواحدة أو هكذا تدعي.. في (دباديب) الواحد.. وتقول هو ومن بعده الطوفان.. وما أن يلوح آخر وفي معيته شقة وسيارة (حتى تروح الدباديب في خبر كان)!وقد يحب الرجل حتى تصاب مفاصله بالذوبان.. وما أن يمتلك من يحب أو جزءاً منها بعد أن يستدرجها بمعسول الكلام.. وتصدق بسذاجتها وعدم تحرزها ما يقول.. حتى يتركها ويبحث عن أخرى شريفة لتكون زوجته.. ولا بأس أن تعود الحبيبة كعشيقة يحارب بها ملل الزوجية وروتينها. زواية أخيرة: كم من حب.. أسال دموعاً.. وكسر قلوباً.. ونصب المشانق.. وفتح السجون.. وكم من حب.. سما بالروح.. وارتقى بالحس.. ولوّن المشاعر!