في الماضي البعيد، كانت شخصية الفارس تشكّل محوراً تحوم حوله مشاعر الناس، وتنطلق من قاعدته أحلامهم، وتتفنن في التعبير عن مآثره ومواقفه البطولية الخارقة. وكان هذا طبيعياً، إذ أن حياة الجماعة في ذلك الوقت كانت تعتمد إلى حد كبير على الفارس، على الرجل القوي الباطش الذي يستطيع أن يقهر أعداءه، ويسقيهم من قسوة الموت كؤوساً، ويكسب لقومه مجداً، وجلالاً، ومهابة. كان توزيع البشر إلى قبائل وجماعات متفرقة يقبل مثل هذا المنطق، ويوحي به، وكانت بدائية الحياة تبرره، وتدفع إليه. المتنبي مثلاً أوقف كثيراً من أشعاره على سيف الدولة، لأنه كان يدرك باحساسه النافذ مكانة ممدوحه في قومه. كان يعرف قيمة ذلك الممدوح في مجتمع يؤمن بالفرد المقدس. غير أن التطور البشري المستمر أبداً، السائر في خطوات كبيرة وحاسمة؛ جعل الفرد يهبط خلال ذلك التغيير المستمر من عليائه شيئاً فشيئاً، ويحل محله سيد جديد، وفارس آخر. لقد استطاعت القدرة الإنسانية الهائلة أن تنتزع من الفرد الممتاز، كثيراً من امتيازاته، وتضعها في يد ذلك الفارس الجديد. إذ دخل عامل الإنتاج والابتكار في الحياة بصفة عامة، وفي وسائل الحرب بصفة خاصة، واستطاع أن ينحي الفا رس القديم من مكانه، بحيث يستطيع من يمتلكها- مهما كان ضعيفاً- أن يقضي على من لا يملكها، مهما كانت مكانته من القوة، ومهما كان قدره من الشجاعة. وكان بعد هذا أن يبحث الوجدان البشري عن فارس جديد، عن رمز تحوم حوله آمال العقل وأحلام الإنسان. ومع تغيُّر الزمن وتطوُّر الحياة، وضحت شخصية الفارس الجديد. برزت شخصية الجماعة، الجماعة التي تخلق الفارس، وتصنع البطولات، وتلوي زمام التاريخ، وتحتم تبعاً لذلك كله أن يتحوَّل المفهوم الثقافي، وتصبح الجماعة هي هدفه، هي المعين الذي يستقي منه ويستمد خصوبته ورواءه. حقيقة، إن مجتمعنا الحديث قد يعجب بفرد قوي تغلَّب على خصم له على مسرح الرياضة، ولكنه، أي مجتمعنا، لا يرى في ذلك الفرد أكثر من كونه عنصراً للتسلية، ويبعث في نفسه انفعالاً خاصاً، كما لا يرى فيه ما كان يراه أجدادنا القدماء. فهنا منعطف جديد، استلزم أن يندفع في تياره كل النشاط البشري، ولقد كانت له إرهاصات، ونبوءات، وتباشير. فالتحوُّل الثقافي الهائل لم يتم في دفعة واحدة، وانتزاع خصائص الامتياز من الفرد لم يتم في دفعة واحدة، وانتزاع الجماعة خصائص الامتياز من الفرد لم يتم في قفزة واحدة ايضاً، وإنما سبق ذلك صراع وتنازع مستمران. واليوم إذ يستوي الوجدان الجماعي على مستويات الواقع؛ فإن مهمة المثقف تتسع وتكُبر، بحيث تصبح مسؤولة عن التعبير عن كل ما يتطلبه هذا الواقع، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن عصرنا الحديث، على الرغم من اتساع رقعة مجتمعاته، قد أحدث من وسائل المواصلات ما قرَّب بين أطرافه، وجعل الاتصال والاحتكاك بين تلك الأطراف مألوفاً ومتعارفا ً على نطاق يومي. إن المثقف الحديث محكوم عليه بأن يستوعب مراحل هذا التغيُّر، وان يستجيب لهذا المفهوم الثقافي الجديد، الذي يتخذ من الجماعة هدفاً له، ومن الانسان مادة لإبداعه وتصوراته. وانها من غير شك لمهمة عسيرة تلك التي يلتزم أو يلزم بها مثقفنا الحديث. ولكن رغم هذا فإنها أمانة لا بد أن يؤديها من أجل الاسلاف الماضية والأجيال الآتية، وإنه لقادر على حملها، لأنه إنسان، والإنسان دوماً يصنع المعجزات.