ما من تغيير حدث في المجتمعات إلا وكانت الثقافة عاملاً حاسماً فيه. فالمثقفون دائماً هم الذين يعبِّئون الشعور العام، ويُعِدُّون للحظات المخاض ولحظات ميلاد التجربة الجديدة. ولكن بعض المثقفين عندنا، على عكس ما تصوّرنا، لا يكادون يفيقون مما هم فيه، لا يكادون يكسرون القماقم التي حبسوا أنفسهم ليروا واقعهم على حقيقته، وليعرفوا أين هم من مكانة المثقف الحديث! المثقفون الذين أعنيهم يعرفون أن الثقافة مسؤولية، ثمن يدفع من الأعصاب، وإن مكان المثقف في الطليعة، ولكنهم يعرفون أيضاً أن الطليعة- بكل أسف- لابد لها من تبعات وتضحيات، والتبعات- بكل أسف مرة أخرى- شيء لا يتفق والصراع على الدرجات، والطعان الدامي في ميدان الترقيات.. ومن ثم فإنهم لا يعلمون، وإنما يفرّون من ميدان التضحية، وينحون منحى سهلاً؛ منحىً لا يتطلب أكثر من نفخ الأوداج والأنوف، والمظاهر المزيفة، والتشدُّق بعبارات يشتم منها أنهم يريدون أن يوحوا إلينا بأنهم مثقفون كبار. خديعة تلك، وتضليل ذلك الذي يريدون أن يوهمونا به.. ذلك أننا إزاء تلك الكلمة- كبار- لا نملك إلا أن نتأمل قليلاً، فتطل علينا في عظمتها وجلالها، في صورتها الرائعة، وتقدّم لنا طلائعها التي خَطَت على الشوك حتى تمكَّنت من تخطيطها، وتحدّث كل العوائق حتى أعطتها معناها، واحتملت الآلام في شجاعة حتى أرست قواعدها. الأسماء العظيمة التي أجبرت الدهر على الخضوع لها، وألهمت البشرية السير وراءها، هذه الأسماء نعرفها ونجلُّها، ونعرف الدور الذي قامت به في مواجهة التجربة واقتحامها، وتحمُّل المسؤولية، والالتزام بكل ردود فعلها. إن تأمُّلنا في تلك الكلمة ينتهي بنا إلى هذه النتيجة، ويبرز ضالة ادعاءات شبابنا، ويحدّد لنا عوالم العمالقة، ومسارح الأقزام، إن شبابنا في تطاحنه حول مطالبه الذاتية، ينسى التزاماته الاجتماعية، ينسى أن خروجه من دنيا الدراسة إلى دنيا العمل بداية جديدة لكفاح أشقُّ وأمرُّ. إن تجربة العمل يجب أن تلهمنا فكرة جديدة، هي أن يكون العمل لنا ولغيرنا، وهذا وحده كاف لأن يخطِّط أبعاد مسؤوليتنا المستحدثة، وليت أمرهم يقف عند تلك الزاوية وحدها، ولكنه بكل أسف يتعدّاها، إنهم في الوقت الذي لا يعملون فيه يسخرون من عمل غيرهم في مجال المنظمات الأدبية والصحافة، إنهم غير راضين بشيء. لقد تحدثت إلى واحد منهم حول شؤوننا الثقافية، وهالني قوله في معرض النقاش إنه لا يقرأ إنتاجنا المحلي، وإن الزمن الذي يقضيه في قراءته جدير بأن يقضيه في قراءة انتاج الكتاب العالميين.. وعجبت من هذا المنطق، عجبت لأنني أحسست أنه ينكر قيمة إنتاجنا المحلي، طالما كان في استطاعته أن يتوفَّر على قراءة آثار الآخرين، أو أن قراءة تلك الثقافات تغنينا عن قراءة ثقافتنا الوطنية، ويبقى بعد هذا على كل من يقرأ إنتاجنا المحلي، أن يعلم أنه يضيع زمانه هباء، ويصرف جهوده في غير جدوى، وإلا فكيف أعلِّل منطقه؟ هذه صورة مصغَّرة للتفكير الذي يتشبَّث به بعض مثقفينا، ليغطّوا به سلبيتهم، وتكالبهم على الأمور الصغيرة، وخلاصة القول فيه: إن مثقفينا قد هربوا من المسؤولية، وسقطوا أمام التجربة، وإني لأرجو ان يكون ذلك الهروب مؤقتاً، وأن ينهضوا من سقطتهم سريعاً، ويستيقظوا من تثاؤبهم ويعرفوا أن لهم رسالة تاريخية إزاء وطنهم ومواطنيهم، وأن مستقبلهم مرهون بمستقبل الجميع.