في شأن المهدية، هناك رؤى كثيرة : يرى ماركس تلك الثورة بأنّها «ثورة الرعاة»..وهذا قول صحيح، شريطة ألّا يُقال الحاقاً به، أنّ الرعاة السودانيين ثاروا ضد «الاقطاع» ، وانما استفزتهم رعونة سياسة الحكام الغرباء،إذ كانت السلطة رأسمالية امبريالية.أمّا د. محمد سعيد القدال فيقول، إنّ «الاقطاع» قد بقى حياً مجسداً، بعد ثلاثة قرون في مزارع السيد عبدالرحمن، كأن لا دوران لعجلة التطور خلال كل تلك السنوات! و عندما نرفض التوصيف بالاقطاع ، فى سودان السلطنة الزرقاء، فإن ذلك لا يعني، و لا ينفي وجود حالات استغلال هنا أوهناك..هناك شك كبير، في اطلاق وصف الاقطاع على العلاقات الانتاجية في مزارع السيد عبد الرحمن، لأن معايير الإقطاع ، إن كانت تجافي الواقع التاريخي في عهد الفونج والفور، فلا يمكن أن تماثل واقعاً لاحقاً ومتجدداً. على هذا، نرى خطأ تلقيب العلاقات الانتاجية في مزارع السيد عبد الرحمن بأنها علاقات اقطاعية،، لا سيما وأن معايير ذلك الوصف تجيء على هذا النحو: أولاً: الأرض هي عصب الثروة والنفوذ لقلة من الاقطاعيين. ثانياً: استغلال الاقطاعي للفلاحين. ثالثاً: تحكم الاقطاعي على الفلاحين بسلسلة من الضرائب تجعلهم أقناناً. رابعاً: بروز واحد من أولئك الاقطاعيين تكون له الغلبة عليهم جميعاً فيشكلون تحت قيادته حلفًا.. هذه المعايير، لا تنطبق على حالة الفونج ولا على مزارع السيد عبد الرحمن للآتي: أولاً: الأرض في مجتمع السودان ليست وسيلة استغلال، ولا هي أساس التنافس الوحيد فهي واسعة وغنية وليست محل صراع إلا في مناطق التماس الرعوي، إن الارض لم تنفرد بكونها عصب النفوذ في مجتمع قليل السكان نسبياً، فهنالك دائرة واسعة لأصحاب المواشي حول خط الاستواء والسافانا، وهم الأكثر تمييزاً وغنًى . ثانياً: كان نظام الرق جزءاً من العشيرة الأبوية، حيث العلاقة بين الرقيق وسيده طابعها التراحم.. لكون السيد هو رب الأسرة، وعلى عاتقه مهام توفير الرعاية والحماية لأفراد اسرته.. لذا كان بعضهم يتخذ من رقيقه ابناء.. فظهر بعض الرقيق في زمان الفونج كأولياء وعلماء، منهم الشيخ عبد الله بن صابون، وقد كان مملوكاً لامرأة، ولم يمنعه الرق من التميز العلمي والروحي على أقرانه ...(عمله بالنهار حضور دروس العلم عند شيخه ويُدرِّس غيره.. يكتب الكتب احتساباً لله.. اعطاه شيخه ابنته فامتنع قال: العبد ما بياخذ سيدته.. «يفيد النص بأن امتناع ابن صابون عن قبول الزواج بابنة شيخه كان حالة التزام من التلميذ المُسْتَرَق بعالمه الصوفي الخاص، وماهو عليه من هضم النفس، بمعنى انه لم يكن هناك قيد يعوق زواج مسترق سالك في الطريق من ذات حسب ونسب. أنظر: الطبقات: ص292» ثالثاً: كان سلطان الدِّين طاغياً في العلاقة بين الفئات الاجتماعية، حيث تعارف الناس على قيود اجتماعية وروحية تكبح وتصد الحاكم أو المالك عن ابراز سطوته على الأولياء، ومن في معيتهم، أهم تلك القيود ان الملكية تحكمها قواعد الاستخلاف، واخلاق التصوف التي تشذب غريزة حب الامتلاك، وتحارب النزعة الفردية في الاستحواذ على المال.. في هذا يقول السيد أحمد ابن إدريس: »المال كله لله.. ثم أدعيتم فيه الملكية فأقركم على ذلك ثم اشتراه منكم وأودعكم إياه، ثم بعد أن قبضكم قسم مالكم لمن يريده فأنزل آيات الميراث، وذلك أن الانبياء لا يورثون شيئاً لأنهم لم يدّعوا الملكية ابداً« . رابعاً: سخّر الأولياء عطايا السلاطين للإنفاق على المريدين وزوار الخلاوي إلى درجة أن أكابر الأولياء كالشيخ إدريس ود الأرباب كان يلجأ إلى الاستدانة من اطلاق يده في الانفاق.