٭ ما أن ينقضي عيد الأضحى من كل عام، ويعود الحجيج من الأراضي المقدسة حتى تثور في البلاد ضجة وترتفع الأصوات الغاضبة بين العائدين وذويهم مما يتعرض له حجاج السودان من دون العالمين جميعاً الذين يتوافدون على البيت العتيق من كل فج عميق.. وتكون «هيئة الحج والعمرة» هي هدف الانتقادات والاتهامات التي لم تكن يوماً بلا أساس وبلا سبب، فليس لأحد من الحجاج أو ذويهم مصلحة في ذلك. ٭ تتنوع وتتفاوت الشكاوى من عام إلى آخر.. فمرة تكون في النقل والترحيل، تأخراً في مواعيد الطيران أو تزاحماً خانقاً في البواخر.. وأخرى في الإسكان ومدى نظافته وملاءمته وثالثة في تنظيم الحركة داخل المشاعر المقدسة.. وهذه المرة- تحديداً- امتد الأمر للطعام، من حيث النوع وتوقيت الوجبات وعلاقته باعمال الانتقال بين المشاعر والمدن المختلفة. ٭ طالعت بالأمس (الاثنين) حواراً أجرته الرأي العام مع مدير هيئة الحج والعمرة المطيع محمد أحمد، الذي تعرفت عليه كفاحاً قبل سنوات عديدة خلال بعض زياراتي لأخي الراحل المدير العام المؤسس للهيئة محمد أحمد النعمان- ألف رحمة على قبره- شاب تقرأ في ملامحه سيماء التدين والتهذيب والتواضع، ويبدو أنه لم يكن حينها يشغل منصباً مهماً في الهيئة. ٭ المطيع وجد نفسه هذه المرة في وجه العاصفة التي تهب وتضرب الهيئة في مثل هذا الموسم من كل عام.. وكان موضوعها الأبرز- كما سبقت الاشارة- الطعام، نوعه وجودته وربما قِلّته، بما في ذلك إضطرار خيرين من أطباء السودان وبعض العاملين بالمملكة لجمع التبرعات لإغاثة ضيوف الرحمن السودانيين.. المطيع نفى أن يكون شيئاً من ذلك «الاخفاق» الكبير قد حدث وإن كل ما في الأمر هناك «ملاحظات» حول طريقة الاطعام وتضارب مواعيد تقديم الوجبات مع أوقات الترحيل، وان التركيز على الفول والعدس، انما هو بسبب تفضيل السودانيين لهما بدلاً بديلاً لانواع الطعام الأخرى التي لا يستسيغونها.. لكن أهم من ذلك هو تأكيده على أن «الاطعام» من قبل الهيئة ومندوبيها أمر مفروض عليهم من قبل إدارة الحج السعودية حيث اكد انه «لو لم يتم ابراز تعاقد الاطعام بالنسبة للحجاج، فلن يتم منحه تأشيرة»، وانهم في الهيئة لا يتربحون من الإطعام، بل هم «جهة خدمية». ٭ وشبه الجملة «جهة خدمية» هذه هي عندي «مربط الفرس»، أو القيد الذي «دَرَعَهُ» المطيع وهيئته طواعية في قدمه وقدم الهيئة التي اصبح مديراً، دَرَعَهُ بلا سبب أو ضرورة.. فمن قال إن هيئة الحج والعمرة- التي أُلحقت أخيراً بوزارة الارشاد والاوقاف يجب أن تتحول إلى «إدارة مطعم» من السفرجية والطباخين يعدون الوجبات «بوفيه أو مناولة» كما ذهب في حديثه لتفصيل المشكلات التي صاحبت مشكلة الإطعام؟!! ٭ «الهيئة»، والفكرة التي وراء انشاء الهيئة، هي انها إدارة تنظيمية- اشرافية ينحصر دورها في تنظيم العلاقات بين الحكومة السودانية ودوائرها ذات العلاقة بترتيب الحج وإدارة الحج في المملكة العربية السعودية، بالاضافة إلى الاشراف على وكالات السفر والسياحة السودانية العاملة في مجال الحج والعمرة.. يعني المطلوب من الهيئة تحديداً هو التفاوض على عديد الحجيج- أو الكوتة- كل عام حسب ما تسمح به سلطات الحج السعودية، وتوزيع هذا العدد على وكالات السفر المرخص لها بتسيير حملات الحجيج والتأكد- نيابة عن وزارة الارشاد وحكومة السودان- أن كل شيئ يسير بيسر وانضباط، لا أكثر ولا أقل. ٭ أما أن تتحول الهيئة إلى «مقاول» أو منفذ مباشر لكل متطلبات الحاج من سكن وترحيل وإعاشة وحتى توزيع الإحرامات، فهذا ليس من اختصاصها.. وهذا ما اقحمت نفسها فيه بلا مسوِّغ أو ضرورة. ٭ في كل الدول المحيطة، فإن تنظيم الحج والعمرة يتم عبر «حملات» تتكفل وكالات أو شركات تخصصت في القيام بتصريفها وفق الضوابط والنظم واللوائح التي تقرها الدولة، وتحاسب الدولة ممثلة في «الهيئة» الوكالة أو شركة السياحة التي تقوم بتنظيم الرحلات والاشراف على حركة الافواج واسكانهم وإعاشتهم أو تقديم المقابل النقدي لهم مقابل ذلك في الاراضي المقدسة.. فيقتصر دور الجهات الحكومية على الإشراف وتذليل المصاعب التي قد تنشأ أثناء الرحلة المقدسة مع رصيفاتها في الحكومة السعودية.. بعيداً عن «الاحتكار» الموثم دينياً والمنبوذ اخلاقياً. ٭ إذاً، على هيئة الحج والعمرة إذا ما استمرت كإدارة داخل وزارة الارشاد والأوفاق، أو تحولت إلى «مجلس أعلى» للحج والعمرة، كما شاع عن محاولة بعض الدوائر استعادة استقلاليتها «كهيئة اعتبارية».. عليها أن تقصر دورها وتحصره في التنظيم والاشراف العام دونما ولوغ في «التفاصيل» التي تجر عليها المصائب والعواصف واتهامات الفساد. ٭ سؤال أخير موجه للحكومة، «اشمعنى» كل شيئ طالته رياح الخصخصة، «البسوى والما بسوى» إلا الحج والعمرة، مع أنه الأجدر بذلك، لأنه بالرغم من قداسته فهو يدخل في حيز «السياحة الروحية».. و الشركات ووكالات السفر كفيلة بتنظيم مثل تلك الرحلات والحملات.. الحل هو في ترك «الخبز لخبازينه» وقطعاً لن يأكلوا نصفه!