انتشر الأسلام في السودان عن طريق المسيد والخلوة، وقام عليه رجال من المتصوفه قدموا نموذجاً في الورع والزهد، أوقفوا حياتهم كلها لله تعالي ، ذكراً وعبادهً وتلاوةً وتعليماً وتحفيظاً للقرآن الكريم ، وإطعاماً للناس وتحقيقاً للسلام الإجتماعي وتماسك المجتمع من خلال (الجوديه) . فما ان ينشأ نزاع بين شخصين أو مجموعتين حتي يمتطي الشيخ دابته ولا يعود الا وقد عادت المياه لمجاريها . (لله درهم) هؤلاء الرجال الأعلام طواهم النسيان في بلدنا الحبيب الذي عايش وما يزال ثقافه (الشفاهيه) . خلف هذا الجيل من الاعلام الأفذاذ رصيداً مكتوباً لم يجد حظه من النشر. واحاديث ونماذج وقيم وتقاليد نري ضروره إطلاع هذه الأجيال الجديده عليها لمعرفه تاريخ أجدادهم والأقتداء بهم . تأسست خلاوي الحاج جابر الشهيرة ذات التاريخ العريق في العام 1059 ه الموافق 1651 م في عهد السلطنه الزرقاء . أسسها الفقيه العالم محمود عبد الرحيم بموطنه (الصوارد) وهي قريه بين جوير ود ضبعه والنوارب بمحليه المتمه ولايه نهر النيل. كان معه أبنه الحاج جابر والذي أشتهرت الخلاوي بأسمه فيما بعد . وقد كانت البدايات ضعيفة كما هو حال كل جديد ، ولكنهم صبروا وثابروا حتي أضحت مناره وقلعه من قلاع العلم والقرآن المجيد . تولي الخلافه بعد الحاج جابر أبنه محمد الكبير وحفيده عبد القيوم وجاء بعدهم محمد الصغير المكني (بالشيخ) . تولي الخلافه بعده أبناءه الفكي عبد الله والفكي عبد القيوم والشيخ المامون. كان الشيخ المامون أحد علماء السودان الإجلاء البارزين . حفظ القرآن في الخلوة ثم تلقي العلم علي يد شيخ الإسلام (الشيخ البدوي) بام درمان . عمل بمصلحة الشئون الدينيه واعظاً ومرشداً ومعلماً . تولي إدارة المعهد العلمي بشندي والذي كان في موقع مدرسه المك نمر بجوار (البنطون) وتوفي في العام 1974 م . كان رجلاً مرحاً و وسطياً معتدلاًغير متشدد . ويُحكي وهم في إفطار رمضان في الشارع العام كعاده اهل البلد أن قال له أحد المتشددين( يا مولانا نصلي المغرب وبعدين نفطر) وكان ان رد الشيخ (لي شنو خايف علي الصلاه من الكديسه . ناكل البتاكلوا الكديسه بالأول). تولي الخلافه بعدهم أبناء الفكي عبد الله وهم الشيخ عبد الحي والفكي أحمد والفكي المامون . عمل الشيخ عبد الحي بالتعليم وتنقل بين مختلف مدارس المنطقه(الكتاتيب) معلماً ومديراً . كان من المهتمين بقضاء حوائج الناس ، من المهمومين بتطوير المنطقه . كان الساعد الأيمن (لعميد) المنطقه المرحوم الحاج كمال الدين أحمد رائد النهضه بمحليتي شندي والمتمه . شارك الشيخ عبد الحي بفكره وجهده وعلاقاته الواسعه فيما حدث من تطور وتقدم بالمحليه . ولما كان الشيخ عبد الحي قد إنشغل مبكراً بتلقي العلم والعمل معلماً فقد تولي الفكي المامون تدريس القرآن منذ العام 1930 م وهو أبن سبعه عشر عاماً. ظل الفكي المامون علي هذا الحال لم ينقطع عن حلقات الذكر والقرآن تحفيظاً وتجويداً إلا في الأيام العشره من عمره ، لزم خلالها الفراش الأبيض وقلبه معلقاً بالمساجد وحلقات الذكر و القرآنيه وقومه (الدغشيه). ولد الفكي المامون في العام 1913 م ولاقي ربه راضياً مرضياً يوم الجمعه المباركه 7 محرم 1436ه الموافق 31/10/2014م عن عمر يناهز المائه عام بقليل . وري جثمانه الطاهر في حشد لم يسبق له مثيل بمنطقتنا بجوار العارف بالله الشيخ (سلمان ود العوضيه) . أوقف الفكي المامون حياته كلها لله تعالي.. للقرآن معلماً ومتعلماً ... والإطعام .. وإفشاء السلام ... وتزويج الشباب وتحصينهم وزياده الأمه إستجابه لقوله صلي الله عليه وسلم (تناكحوا تكاثروا فاني مفاخر بكم الأمم يوم القيامه). قضي الفكي المامون الأيام العشره الأخيره بالمستشفي وعمره تجاوز المائه عام ولكن ذهنه ظل متقداً وقد كان وهو طريح الفراش يجلس بجواره أحد(الحيران) يقرأ القرآن علي مقربه من أذن الفكي وعندما أخطأ في القراءه صوبه الفكي وهو في هذا العمر المتقدم وفي هذه الحاله الصحيه! لله درهم فقد حفظوا الجوارح في الصغر فحفظتهم في الكبر . وهكذا كل أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أشتهرت بخلاوي الحاج جابر (ام الفقراء) الحاجة ام هاني بنت حسين والده الفكي عبد الله والتي أمدها الله بمدد من عنده فقد كانت وحدها تطعم كل الحيران وعددهم وقتها يتجاوز السبعين ، ثلاثه وجبات يومياً وتطحن الذرة عن طريق (المرحاكه) وهي عباره عن حجر كبير مثبت في الأرض توضع فيه الذره مبتله وحجر آخر صغير تحركه بيديها ليطحن الذره . تكرر هذه العمليه يومياً للأفطار ثم للغداء ثم للعشاء لكل هذا العدد بجانب ضيوف الخلاوي دون كلل أو ملل ، في وقت لم تكن (الطواحين) قد توفرت بالبلاد وظلت علي هذا الحال حتي لاقت ربها في العام 1943م. تعاقب علي (القرآنيه) في خلاوي الحاج جابر أكثرمن ستين شيخاً ، عبر عمرها المديد البالغ (363) عاماً وهي بذلك تعتبر من أقدم منارات القرآن الكريم بالبلاد . كان أشهر وأبرز مشائخ القرآن فقيدنا العزيز الفكي المامون وفي عهده تطورت الخلاوي لتُحفظ القرآن بجانب روايه (الدوري) بروايه (حفص) وقد أهتم بالتجويد. وقدِم للخلاوي الطلاب من مختلف انحاء السودان ومن خارجه من أثيوبيا وأرتريا وتشاد وبوركينا فاسو وتايلاند حتي بلغ عددهم في العام ثلاثمائه طالب توفر لهم الخلاوي كل الأحتياجات ويقف خلفها عدد كبير من المحسنين من أبناء هذه المنطقه. وقد تخرج من الخلاوي عشرات الآلاف إنتشروا في كل بقاع السودان وخارجه وأقاموا الخلاوي بمناطقهم وعملوا كأئمه ودعاه ومنهم من أكمل تعليمه وألتحق بالأزهر الشريف والجامعات الإسلاميه ونالوا أعلي الدرجات العلميه . ومن أبرز خريجيها الدكتور كامل الباقر مؤسس الجامعة الأسلاميه بامدرمان وأول مدرائها- الأستاذ حامد نافع والذي عمل بمختلف المواقع في التعليم العام ? صديق بدر شيطيبي المحاضر بجامعة الجزيره ? الشيخ الطيب سليمان الخليفة أحد كبار رجالات الحركة الاسلاميه ? منصور بكري الفكي وزير الشئون الاجتماعية بولاية سنار ? عمر حجاي مصحح بمجمع مصحف أفريقيا ? محمد التجاني الهدي القاضي بالهيئه القضائيه. نسأل الله تعالي ان يكرم آل الحاج جابر بقدر ما أكرموا هذه الأمه وأن يتقبل شيخنا وبركتنا وأستاذنا الفكي المامون قبولاً حسناً وان يجعله في رفقه الأنبياء والصديقين والشهداء . ويجعل البركه في عقبه وفي خليفته المبارك الفكي (عبد القيوم) وأن يسيره بسير أسلافه ويمضي علي نهج والده أنه ولي ذلك والقادر عليه